بقلم: إبراهيم اشتية
أثَّرَت الأحداث العالمية الأخيرة على الأسواق والاقتصادات العالمية، بما في ذلك الحرب الروسية الأوكرانية وتداعيات جائحة كوفيد-19 والاحتباس الحراري. إذ تعرضت المحاصيل للاحتراق بسبب حرائق الغابات وموجات الحرارة التي ضربت العديد من البلدان، وتَعَطَلت قنوات سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم، وكانت عمليات الإغلاق الإلزامية لمواجهة جائحة كوفيد-19 كلها عوامل أساسية في التغيرات الجذرية في أسعار السلع، كالمعادن والنفط الخام والغاز الطبيعي والأغذية الأساسية (القمح، السكر، الأرز.. إلخ).
تساهم هذه العوامل بشكل كبير في تكلفة الواردات والاستهلاك الإجمالي وأسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم. كما أن التغيرات في إجمالي الطلب المحلي سلَّطَت الضوء على عنصر حاسم آخر في التأثير على معدلات التضخم.
مع تحرك العالم نحو التعافي من تداعيات جائحة كوفيد-19 بداية عام 2022- الربع الأول على وجه التحديد- شهدنا صراعًا جيوسياسيًا بين أوكرانيا وروسيا أدى إلى اضطرابات هائلة في قنوات سلسلة التوريد العالمية، وعقوبات على روسيا من قبل الحكومات الغربية مثل دول الناتو، مما أثر على المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. وأدت الإجراءات الصينية الصارمة المتعلقة بمكافحة كوفيد-١٩ إلى انخفاض نشاط التصنيع والتصدير خارج الصين للحفاظ على سلعها الاستهلاكية وحماية أمنها الغذائي ما تسبب في صدمات للاقتصاد العالمي.
بالإضافة إلى استمرار إجراءات الإغلاق الصارمة للحد من انتشار فيروس كورونا، أدت هذه الإجراءات إلى إعادة توزيع دورة التصنيع وقنوات سلسلة التوريد، ومع اعتماد العالم بشكل كبير على التصنيع الصيني، كان شراء السلع والخدمات الصينية مكلفًا للشركات والأفراد. فيما قامت العوامل الأخرى المتعلقة بتغير المناخ كالجفاف وموجات الحرارة والعواصف بإتلاف المحاصيل الزراعية وتدميرها، وما جرى في أفغانستان خير مثال.
في غضون ذلك، استمرت أسعار الطاقة العالمية في الارتفاع في الربع الأول من عام 2022 بنحو 19% مقارنة بالربع السابق، وبحوالي 80% مقارنة بالربع المماثل (الربع الأول من عام 2021).
وقد تم إيضاح ذلك في مقارنة أسعار برميل النفط، حيث ارتفعت الأسعار إلى 112 دولارا في المتوسط خلال شهر آذار/ مارس 2022 مقارنة بـ 73 دولارا في المتوسط خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021.
أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى حالة كبيرة من عدم اليقين. وأدى تعطل قنوات سلسلة التوريد المضطربة أصلا إلى ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، كما يتضح من ارتفاع مؤشر الغذاء بنسبة 15% على أساس ربع سنوي وبنسبة 25% على أساس سنوي.
نتيجة لهذه العوامل المذكورة أعلاه مثل الحرب والتغيرات المناخية والكورونا، زاد التضخم العالمي بشكل كبير متجاوزًا المستوى المحدد في العديد من البلدان. منطقة اليورو، على سبيل المثال، تأثرت بشدة بالحرب الروسية الأوكرانية بسبب روابطها الجغرافية والسياسية والاقتصادية مع البلدين. ارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو بشكل ملحوظ ليصل إلى 9.1% في آب/ أغسطس 2022 حيث تعتمد المنطقة بشكل كبير على السلع من أوكرانيا وروسيا. وينطبق الشيء نفسه على تركيا مع إضافة عملتها المتدنية حيث بلغ معدل التضخم 80.2%.
ومع ذلك، تمكنت الصين من خفض معدل التضخم بنسبة 2.5% بسبب سياساتها وإجراءاتها في مكافحة كوفيد-19، حيث أثَّرَت عمليات الإغلاق والإغلاق الشامل الصارمة على مستويات الاستهلاك الخاص. كما طبقت الصين إجراءات صارمة للغاية لوقف الزيادة في توريد المواد الخام الأولية للحد من تكلفة إنتاج السلع المصنعة في الصين.
من ناحية أخرى، شهدت الدول المجاورة لفلسطين ارتفاعًا حادًا في معدلات التضخم. بلغت معدلات التضخم في آب/ أغسطس من عام 2022، 4.5% و5.4% و13.1% في إسرائيل والأردن ومصر على التوالي. في فلسطين لم يختلف الواقع عن المنطقة، حيث وصل معدل التضخم إلى أعلى معدل ربع سنوي له في عشر سنوات عند 3.1%.
النمو الاقتصادي العالمي والإقليمي
عند معاينة شُركاء فلسطين التجاريين، لا نشهد تغيرات جذرية في معدلات النمو الاقتصادي. فيما يلي معدلات النمو لأكبر الشركاء التجاريين العالميين لفلسطين (اعتبارًا من الربع الأول من عام 2022): نما اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 5.1% بسبب مستويات الطلب القوية التي عوضت الآثار السلبية المذكورة سابقًا، وتركيا بنسبة 7% كونها مستفيدة من قدراتها في التصنيع والتصدير، والصين بنسبة 4.8% بسبب استمرار الإجراءات الصارمة لمكافحة كوفيد-19.
على المستوى الإقليمي، كانت معدلات النمو لأكبر الشركاء التجاريين لفلسطين كما يلي (اعتبارًا من الربع الأول من عام 2022): انخفض معدل النمو في إسرائيل إلى 9% بسبب انخفاض الإنفاق الحكومي والصادرات، ولوحظت آثار مماثلة في مصر مع تباطؤ نموها وصولًا إلى 5.4% في فلسطين، لم يختلف الواقع عما نراه في دول الجوار حيث تباطأ النمو الاقتصادي من 11.2% في الربع الرابع من عام 2021 إلى 4.7% في الربع الأول من عام 2022.
الطلب المحلي الإجمالي
يتكون الطلب المحلي من الاستهلاك الخاص والنمو والاستثمارات. عند مقارنة الربع الرابع من عام 2021 والربع الأول من عام 2022، نشهد زيادة في الاستثمارات بنسبة 15%، بالإضافة إلى زيادة في الاستهلاك الخاص.
على الرغم من زيادة الاستهلاك، إلا أنه ليس قريبًا مما كان عليه قبل جائحة كوفيد-19. يعتبر الاستهلاك الخاص في السوق الفلسطيني مؤشرًا حاسمًا للطلب المحلي؛ حيث يشكّل نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني.
كما أنه أحد العوامل الأولى التي تؤثر على النشاط الاقتصادي أثناء الصدمات الاقتصادية السلبية، حيث ان توفير الأموال في السوق يمكن أن يحفز الاقتصاد من خلال الانفاق والاستهلاك الخاصين. في فلسطين، وبسبب التضخم في أسعار السلع في جميع أنحاء العالم، انخفضت مساهمة الاستهلاك الخاص في الناتج المحلي الإجمالي وتعرقلت معدلات الاستهلاك مع ارتفاع الأسعار.
العمالة والأجور
ارتفع إجمالي عدد العمال الفلسطينيين خلال الربع الأول من عام 2022 مقارنة بالربع السابق؛ نتيجة حصول الفلسطينيين على وظائف في إسرائيل ومستعمراتها غير القانونية. إذ استوعب سوق العمل الإسرائيلي ما يقرب من 204 آلاف عامل فلسطيني جديد في قطاعي البناء والخدمات، وذلك على حساب سوق العمل الفلسطيني، حيث أدى إلى انخفاض حصة الضفة الغربية في سوق العمل إلى 57%. بينما احتفظت غزة بحصتها البالغة 25% من السوق.
وارتفعت أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل إلى حوالي 1.7% على أساس سنوي. حيث أصبحت هذه الزيادة في الأجور جاذبة للعمال الفلسطينيين، ما أدى إلى تحول تجاه سوق العمل الإسرائيلي. أما في غزة فقد انخفضت الأجور فيها بنحو 9%، بينما انخفضت بنحو 5% في الضفة الغربية.
وأدى ذلك إلى تقييد القوة الشرائية للعمال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أدى انخفاض سعر الصرف بين الشيقل الإسرائيلي (ILS) والدولار الأمريكي (USD) والدينار الأردني (JOD) بنحو 2.4% إلى إضعاف القوة الشرائية لنسبة صغيرة من الموظفين الذين يتلقون رواتب بالدولار الأمريكي والدينار الأردني، مع الأخذ في الاعتبار أن معظم الفلسطينيين يتلقون رواتبهم بالشيقل الإسرائيلي.
وقد أثرت هذه التغيرات في عدد الموظفين ومعدل أجورهم على مستويات الطلب والأسعار في الاقتصاد الفلسطيني، حيث ارتفع إجمالي الدخل اليومي للعمال الفلسطينيين نتيجة الزيادة في إجمالي عدد الفلسطينيين العاملين.
وتأتي هذه الزيادة من العمال الفلسطينيين في إسرائيل وحصولهم على أجور تصل إلى 2.3 ضعف الأجور في الضفة الغربية، ما أدى لزيادة إجمالي الدخل اليومي.
نتيجة لذلك، قد تزداد مستويات الاستهلاك والاستثمار مما يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات وكذلك ارتفاع مستويات الأسعار.
وفي الوقت نفسه، قد تؤثر الزيادة في الأسعار وانخفاض القوة الشرائية أيضا على سلوك المستهلكين.
وبخصوص التوجه للادخار وتحديد و/أو تأجيل الإنفاق، من الممكن أن يؤدي ذلك إلى معدلات تضخم أقل، مع افتراض ثبات باقي المتغيرات.
باختصار، لم تكن الزيادة في إجمالي عدد العمال وإجمالي دخلهم اليومي كافية لتحفيز الاقتصاد، حيث انخفضت من 11.2% في الربع الأخير من عام 2021 إلى 4.7% في الربع الأول من عام 2022 كما ذكرنا سابقا.
التطورات المالية
في سياق مكافحة التضخم، توجهت البنوك المركزية إلى سياسات تهدف إلى السيطرة على المعروض النقدي في الأسواق في جميع أنحاء العالم.
من الناحية النظرية، ستؤدي زيادة سعر الفائدة على الإقراض إلى انخفاض الاقتراض (مع زيادة تكلفة الاقتراض) وستؤدي زيادة معدل الفائدة على الودائع إلى زيادة المدخرات (مع زيادة أرباح الادخار).
ونتيجة لذلك، ستؤدي هذه الإجراءات وسلوكيات المستهلك إلى تقليل التدفق النقدي والسيولة داخل الاقتصاد، وبالتالي الحد من المعروض النقدي.
ونتيجة لانخفاض عرض النقود، نشهد انخفاضا في الاستهلاك الخاص مما أدى إلى انخفاض إجمالي الطلب المحلي. نتيجة لذلك، تنخفض الأسعار المحلية.
الأسعار والتضخم
الاقتصاد الفلسطيني هو اقتصاد يعتمد بشكل كبير على الواردات من الدول المجاورة، حيث يتم استيراد معظم السلع من شركاء تجاريين عالميين وإقليميين مثل النفط، والقمح، والأرز، والسكر.
في ضوء جائحة كوفيد-19، تأثرت قنوات سلسلة التوريد في جميع أنحاء العالم، وفي بعض الحالات توقفت تماما.
بعد الحرب الروسية الأوكرانية، تأثر الطلب ومستويات الأسعار بشدة. حيث تتمتع روسيا، على سبيل المثال، بنصيب كبير من احتياطيات العالم من النفط والغاز الطبيعي والمعادن.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر روسيا وأوكرانيا من أهم موردي القمح والذرة في العالم. لذلك أدت الحرب والعقوبات الناتجة عن هذا العدوان إلى نقص المعروض من هذه السلع، ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار هذه السلع عالميا.
استجابة الحكومة الفلسطينية للتضخم
تركز الحكومة الفلسطينية على الحفاظ على معدل تضخم منخفض على بعض السلع الأساسية مثل الوقود والنفط والكهرباء.
مع قيام مزود الكهرباء الإسرائيلي برفع الأسعار للكيلو واط في الساعة، حرصت الحكومة الفلسطينية على عدم وصول هذه الزيادات إلى المستهلكين الفلسطينيين، ولا سيما الفئات ذات الدخل المنخفض.
فقد دفعت الحكومة الفلسطينية حوالي 12.6 مليون شيقل إسرائيلي كدعم لتعرفة الكهرباء في آذار/ مارس 2022.
بالإضافة إلى ذلك، تحملت الحكومة ما مجموعه 14.06 مليون شيrل من الخسائر المالية خلال أشهر شباط وآذار ونيسان للحفاظ على أسعار الكهرباء كما كانت.
من ناحية أخرى، ترتفع أسعار الوقود في جميع أنحاء العالم، ومع وصول سعر البترول إلى 149 دولارا للبرميل، حرصت الحكومة الفلسطينية أيضا على بذل كل جهد ممكن للتخفيف من أثر ارتفاع الأسعار على المستهلك النهائي.
في نيسان/ أبريل 2022، قُدِّرَ أن الدعم الحكومي للوقود بلغ 165 مليون شيقل، إضافة إلى 109 ملايين شيقل في الشهر السابق.
الخاتمة
سيستمر التضخم في الارتفاع في المستقبل القريب حيث لا توجد نهاية واضحة للحرب الروسية الأوكرانية، ولا يزال كوفيد-19 موجودًا ويسجل موجات من المتغيرات الجديدة، وقد أدت الآثار الحقيقية لتغير المناخ إلى كوارث طبيعية مدمرة. تسببت هذه العوامل في ارتفاع معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم، وقد استخدم صنّاع القرار أساليب صارمة في محاولة لوقف و/ أو السيطرة على التضخم.
وقد قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بزيادة سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية حيث رفعت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة (FOMC) سعر الفائدة إلى 3.25% في أيلول من عام 2022.
هذه الأساليب مبررة لتأثيرها على عرض النقود والنشاط الاقتصادي، ولكن من الواضح أنها ليست فَعَّالَة بما يكفي لوقف التضخم الذي تعاني منه اقتصادات العالم.
يجب على صانعي السياسة الفلسطينيين التفكير في طرق مبتكرة وإبداعية لمكافحة التضخم، خاصة وأن الاقتصاد الفلسطيني يفتقر إلى بعض عناصر السيادة مثل العملة الوطنية، والسيطرة على الحدود والسيادة الاقتصادية.
عدم وجود مثل هذه العناصر يحرم صنّاع القرار الفلسطينيين من الأدوات والسياسات التي يمكن أن تساعد في إدارة الصدمات السلبية.
وقد تم بالفعل تنفيذ بعض الخطط التي يمكن أن توجه الاقتصاد الفلسطيني نحو الانتعاش، وقد نجحت في تقليل التأثير السلبي على الأسعار المحلية. دعم الوقود والأغذية الأساسية والكهرباء هي أمثلة على الخطوات التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية لمكافحة الصدمات السلبية الناجمة عن العوامل الخارجية المذكورة سابقاً.
من المهم للقيادة الفلسطينية أن تعيد تشكيل العلاقة مع إسرائيل والدول المجاورة، وهذا يحتاج إلى رأس مال سياسي لتحقيقه. الاتفاقيات الاقتصادية الحالية بين فلسطين وإسرائيل (بالإضافة إلى دول الجوار) تشل وتقيد الاقتصاد الفلسطيني، وتؤدي إلى تدهور عوامل النمو الاقتصادي. لذلك، تحتاج لأجندة سياسية جريئة وواضحة لدعم خطة اقتصادية لتحويل فلسطين إلى دولة مستقلة وذات سيادة ومكتفية ذاتيًا.
وهذا يتحقق بإنهاء الاحتلال وتجسيد دولة فلسطين مستقلة ذات السيادة قابلة للحياة ومتواصلة الأطراف.
المصدر: بوابة إقتصاد فلسطين