رام الله-وفا-جعفر صدقة-للوهلة الأولى، تبدو الخطة الأميركية التي ستعرض على "ورشة البحرين"، اليوم الثلاثاء، مجرد قائمة بمشاريع اقتصادية بموازنة مالية شبيهة الى حد كبير بموازنات الشركات، دون أي مضمون سياسي، لكن، ما تصر الإدارة الأميركية على إبقائه طي الكتمان، وهو الشق السياسي من خطتها الشاملة أو ما بات يعرف بـ"صفقة القرن"، تبدو ملامحه واضحة في خطتها الاقتصادية.
الخطة تدعي "تحسين حياة الفلسطينيين" وتسعى لجمع 50 مليار دولار لهذا الغرض على مدى عشر سنوات، منها 28 مليار دولار لتمويل مشاريع في "الضفة الغربية وقطاع غزة"، والباقي لتمويل مشاريع في كل من مصر والأردن ولبنان، جزء منها لخدمة الاقتصاد الفلسطيني، ويتوزع هذا المبلغ على ثلاثة مصادر: منح، واستثمارات خاصة، أغلبها سيكون على شكل قروض.
في الجزء المخصص للضفة وغزة (28 مليار دولار)، خصصت الخطة لقطاع النقل والمواصلات 6,562 مليار دولار أي بنسبة 24% من إجمالي المبلغ، و2,539 مليار دولار أي بنسبة 9% لقطاع الطاقة، و2,322 مليار دولار أي بنسبة 8% لقطاع المياه، و2,625 مليار دولار بنسبة 10% لقطاع التكنولوجيا، و3,330 مليار دولار أو بنسبة 12% لإصلاح قطاع الحكم، و1,895 مليار دولار بنسبة 7% للتعليم، و 1,450 مليار دولار بنسبة 5% لتطوير قطاع السياحة (5%)، ومثلها 1,459 مليار دولار تشكل 5% لتطوير الموارد الطبيعية، و 1,320 مليار دولار بنسبة 5% لقطاع الصحة، ومليار دولار بنسبة 4% لقطاع الإسكان و920 مليون دولار بنسبة 3% لقطاع الزراعة، و875 مليون دولار بنسبة 3% لقطاع الصناعة، و630 مليون دولار بنسبة 2% لـ"تحسين جودة الحياة"، و560 مليون دولار بنسبة 2% لتطوير الأعمال، و345 مليون دولار نسبة 1% لتطوير قوى العمل.
في التفاصيل، فإن الخطة تقترح مشاريع محددة في هذه القطاعات، كشبكة طرق، بما في ذلك طريق رابط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومحطات تحلية مياه، ومحطات توليد كهرباء، ومناطق صناعية في سيناء لخدمة قطاع غزة، وجامعة يخطط أن تكون من بين أول 150 جامعة في العالم، والهدف النهائي: خفض البطالة من أكثر من 30% إلى اقل من 10% بتوفير أكثر من مليون وظيفة، ومضاعفة الاقتصاد الفلسطيني عدة مرات على السنوات العشر للخطة.
"الملاحظة الجوهرية على الخطة، أنها تُغيب الجانب السياسي تماما"، قال خليل شاهين مدير البحوث في مركز "مسارات"، ومقره برام الله.
وأضاف: "نحن نتحدث عن مناطق مستهدفة بالتنمية وهي خاضعة لاحتلال مباشر، والخطة لا تقدم أي أفق سياسي لكيفية إحداث هذه التنمية".
على سبيل المثال، الخطة تخصص مبالغ طائلة لمشاريع بنية تحتية في مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة، وهي مسرح لأنشطة استيطانية محمومة، في وقت يتحدث فيه السفير الأميركي في تل أبيب ديفيد فريدمان، عن ضم أجزاء من الضفة إلى إسرائيل، "وهذا يعني أن ما يرد في الخطة في بعض جوانبه ليس فقط تمويل للاحتلال وضمان بقائه لفترة طويلة، وإنما إحداث انتعاش في للأنشطة والخطط الإسرائيلية اليومية"، قال شاهين.
وتابع: مع عدم امتلاك الجانب الفلسطيني لمفاتيح العملية التنموية، وفي مقدمتها غياب سيطرته على الموارد الطبيعية، وحديث الخطة عن قطاع المياه من باب التوصل إلى اتفاق جديد حول سعر شراء المياه من إسرائيل، وتحسين الآبار القائمة حاليا في وقت لا تسمح إسرائيل للفلسطينيين بحفر آبار جديدة، بل وتقوم بهدم أي بئر يحفرها الفلسطينيون كما يحصل في شمال الضفة، وكذلك الحال في حديثها عن قطاع الاتصالات وغيره من القطاعات، كل هذا يعني أن الخطة تهدف إلى تكريس الوضع القائم".
وقال شاهين: من السخرية الحديث عن حصول الفلسطينيين على خدمات الجيل الخامس للاتصالات "5G"، وهي خدمات غير موجودة في الولايات المتحدة نفسها. الخطة بمضامينها في غياب أفق سياسي تعني تطويع البنية التحتية والاقتصادية والتجارية لخدمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي القائم.
وأشار إلى أمر جوهري آخر تجاهلته الخطة، وهو يحمل بعدين: سياسيا واقتصاديا، يتمثل باتفاق باريس الاقتصادي الذي يحكم العلاقة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل.
وقال: "رغم أن الاتفاق يحدد شكل العلاقة المجحفة مع إسرائيل، إلا أن الخطة لم تقدم أية معالجة له".
الخطة الأميركية أو ما بات يعرف بـ"خطة كوشنير" نسبة إلى مستشار الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنير، والتي تتكون من حوالي 140 صفحة، بشقيها المالي والتوضيحي، لم ترد فيها كلمة "فلسطين" ولو لمرة واحدة، كما أنها لم تذكر "السلطة الفلسطينية" أبدا، واستعاضت عن ذلك بتعبير "السلطات الفلسطينية القائمة"، "وهو تعبير يمس بدور وشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية وكيانها المفترض أن يكون موحدا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما يوحي بأن الخطة تهدف الى تكريس الفصل بين كيانين في الضفة وغزة، مع حصر الربط بينهما بحركة الأفراد والبضائع، وحتى هذا فهو مرفوض من قبل إسرائيل حتى الآن"، قال شاهين.
وأضاف: "هنا، يصبح حديث الخطة عن برنامج لتعزيز قدرات العاملين في الجمارك ونقاط العبور، وتحسين الجباية، مثيرا للسخرية، إذ لا يوجد فلسطيني واحد على المعبر المتاح، وهو معبر الكرامة بين الضفة الغربية والأردن، الذي تسيطر عليه وتديره إسرائيل بالكامل، والمعابر التي فيها تواجد فلسطين هي معابر غزة، والتواجد فيها حاليا لموظفين تابعين لحركة حماس".
وقال شاهين، في حديث الخطة عن "تحسين حياة الفلسطينيين"، "لا تشير إلى منح أو دعم موجه لتعزيز وجود كيانية فلسطينية موحدة بخطة تنموية موحدة، "ما يعني أن جوهر المشاريع الواردة في الخطة تقوم على تهشيم الكيانية الفلسطينية، وتكريس الانقسام، مع الإبقاء على تبادل البضائع بين كيانين، في المقابل، فإن الخطة تسعى إلى ربط قطاع غزة بمصر، خصوصا سيناء، إذ أن جزءا من المشاريع التي تخصصها الخطة لقطاع غزة تقوم على شراء الطاقة من مصر وإسرائيل، كما أن المشاريع المقترحة لمصر جزء منها يتعلق بتطوير مشاريع طاقة تخدم قطاع غزة، وفي هذا استجابة للسياسة الإسرائيلية التي تسعى لترسيخ مكانة جديدة للقطاع باعتباره منطقة غير خاضعة للاحتلال، كما أن الخطة لا تقدم إجابات حول مصير الحصار المفروض على القطاع منذ 12 عاما".
وتابع شاهين: "الأخطر من ذلك، أن جزءا كبيرا من الخطة يتعلق بتطوير الحكم وقطاعات الصحة والتعليم والتكنولوجيا، وهذا غير مجد في ظل تجاهل سلطة موحدة وتعزيز قدراتها، ما يعني عدم وجود أية فرصة لتنفيذ هذه المشاريع إلا إذا كان الهدف السياسي غير المعلن هو إبقاء السلطة باعتبارها إدارة ذاتية، أو أن الحديث عن التعامل مع السلطات القائمة يعني التعامل مع السلطات المحلية في كل محافظة، وهذا يتناغم مع ما تتحدث عنه إسرائيل".
من جهته، قال رجل الأعمال سمير حليلة، الذي تولى عدة مناصب حكومية رفيعة وإدارة العديد من الشركات، "إن بيان كوشنير الذي أعلن فيه عن عقد ورشة البحرين، قبل حوالي شهر، "تحدث عن الأطر المحددة للورشة، وفيها أربعة ممنوعات: مناقشة قضية اللاجئين الفلسطينيين، والقدس، والدولة الفلسطينية، والإجراءات الأمنية الإسرائيلية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة"، متسائلا عن ماهية التنمية الاقتصادية التي تريدها الولايات المتحدة دون مناقشة هذه القضايا.
وتابع: "هذا يعكس رؤية إسرائيل، وبالتالي يعكس عدم جدية الولايات المتحدة. تغيير اسم الخطة تحت ضغط إعلامي من "ازدهار من أجل السلام" إلى "سلام من اجل الازدهار" لا يغير هذه الحقيقة".
ورأى حليلة أن طرح هذه القائمة من المشاريع الاقتصادية دون خطة سلام "يعني أن الهدف هو إنشاء صناديق تجمع فيها أموال، وتقديم جزرة للقول للناس انظروا ما الذي تضيعه حكومتكم".
وأضاف، الخطة بكاملها لا تتضمن أية إشارة للاحتلال بأي شكل من الأشكال، كما أنها لم تجب على الممنوعات التي أعلنتها إسرائيل منذ البداية، وأبرزها الربط بين الضفة وغزة، وأي انسحاب أو إخلاء مستوطنات في الضفة، كما أنها شطبت الميناء والمطار في قطاع غزة، واستعاضت عنهما بمشاريع طاقة ومناطق صناعية في سيناء.
وقال حليلة: "الخطة تصور أن الموضوع مجرد موضوع أموال فقط، وتتحدث عن سقف أهداف على شاكلة خفض البطالة من 30% إلى 10% في عشر سنوات، وزيادة مشاركة المرأة بالاقتصاد من 20% الى 30%، وخفض وفيات الرضع من 18 في الألف إلى 9 في الألف، وزيادة معدل عمر السكان من 70 عاما إلى 80 عاما، وإنشاء جامعة تكون من بين أول 150 جامعة على مستوى العالم، من حيث جودة التعليم، ورفع ساعات وصول الكهرباء في قطاع غزة إلى 16 ساعة يوميا، ولتحقيق هذه الأهداف تعرض الخطة مجموعة من المشاريع في مختلف القطاعات بمليارات الدولارات. هناك شك كبير بقدرتنا على استيعاب هذا التمويل بسبب الإجراءات الإسرائيلية، التي تشكل السبب الرئيسي في ضعف الاقتصاد الفلسطيني.
وأضاف، هناك جزء من المشاريع لا يمكن تنفيذه إلا بموافقة إسرائيل، كالممر الرابط بين الضفة وغزة، وهو مشروع أعلنت إسرائيل مرارا رفضها له، ولم تبرز الخطة موافقة إسرائيل على هذا المشروع، ولا تقدم إجابات على العديد من التساؤلات.
وبرأي شاهين وحليلة، وغيرهما من المحللين والمراقبين، فإن الوثيقة التي ستعرضها الإدارة الأميركية على "ورشة البحرين" لا يمكن اعتبارها خطة، وما تتضمنه فقط أموال سيتم صرفها فقط، فالخطط بالمنظور العلمي تشخص الواقع وتحدد العقبات والمخاطر ومن ثم تقترح الحلول والمشاريع، لكن الوثيقة الأميركية تجنبت كل ذلك بقصد تجنب ذكر العائق الأكبر وهو الاحتلال والاستيطان.
كذلك، فعند النظر للمبالغ المخصصة للأراضي الفلسطينية، تبدو للوهلة الأولى كبيرة (28 مليار دولار على عشر سنوات)، لكن في التمعن يتضح أن السلطة الوطنية تلقت منذ إنشائها في العام 1994 مساعدات تجاوزت 36 مليار دولار، وهو مبلغ يفوق المبلغ المخصص في "خطة كوشنير"، "والتجربة الأهم في المساعدات الماضية أن التنمية لم تكن قابلة للتحقيق بسبب الاحتلال"، قال شاهين.
كما أن حصة المنح في المبلغ المخصص للأراضي الفلسطينية لا يتجاوز 8 مليارات دولار، أي بمعدل 800 مليون دولار سنويا، وهو مبلغ يماثل، أو يقل، عن معدل المساعدات التي تتلقاها السلطة سنويا حتى الآن، لكن جديد الخطة الأميركية هي أن الجزء الأكبر من المبلغ المخصص للأراضي الفلسطينية سيكون على شكل قروض، ما يعني إغراق الفلسطينيين بأعباء الديون لسنوات طويلة. أما الاستثمارات الخاصة، فمن المشكوك فيه أن تخرج ورشة البحرين بأية التزامات للاستثمار في بيئة متوترة، ومليئة بالضغوط السياسية والاقتصادية والمالية التي تهدد جوهر وجود السلطة الوطنية الفلسطينية، وتفتقر إلى الحد الأدنى من اليقين السياسي.
وإن كانت "خطة كوشنير" فشلت في إخفاء السم التي وضعته بالدسم، فإن كوشنير نفسه وضعها في سياقها الصحيح، وكشف عن جوهر الشق السياسي أو "صفقة القرن"، التي ما زالت تتكتم عليها الإدارة الأميركية، في مقابلة تبثها قناة الجزيرة القطرية اليوم الثلاثاء، بقوله إن مبادرة السلام العربية لم تعد قائمة، و"الحل يجب أن يكون بينها وبين الموقف الإسرائيلي".