لم يعد هناك أدنى شك في أن الحاجة أصبحت مُلحة لمواجهة الأزمات المُهددة لاستدامة الحياة الآمنة على كوكب الأرض. ويتطلب التصدي لهذه الأزمات المعقدة معالجة جذرية لأسبابها كتنفيذ مبادرات عالمية تقدم حلولاً متكاملة تغطي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويستلزم نجاح هذه المبادرات توفر القيادة الفعالة وتضافر جهود الدول الشريكة، على مستوى الحكومات والقطاع المدني والخاص، لبلورة الرؤى وتحديد الأدوار والمسؤوليات التي تشمل سنّ التشريعات ورسم التوجهات الاستراتيجية، ووضع الخطط التنفيذية ومتابعة مستوى الالتزام بها والتقرير عنها بشفافية. كما تعمل الجهود المشتركة على تحديد الموازنات اللازمة والإطار الزمني وتسعى لتوفير البيئة الداعمة لتحفيز الكفاءات على وضع معارفها ومهاراتها وخبراتها موضع التنفيذ والمنافسة على ابتكار حلول تحويلية تُخفف من الاضرار البيئية وتُجنب الوصول الى نقطة اللاعودة.
على المستوى العالمي، وعلى الرغم من كثرة التحديات وعمقها، فقد تمكنت بعض الدول والمؤسسات والتحالفات من قيادة مئات المبادرات الملهمة التي يمكن تكرارها، أو توسيع نطاقها أو البناء عليها، في معرض جهود الحفاظ على الأرض وجودة حياة الانسان. وفيما يأتي مختارات من هذه المبادرات:
أولاً: "خطة التنمية المستدامة 2030": تنبع أهمية هذه المبادرة من كونها ثمرة جهود مشتركة بدأت بالتحديد المنهجي لسبعة عشر هدفاً عالمياً لتحقيق الاستدامة. وقد اعتمدت الدول الأعضاء الـ 193 في الجمعية العمومية للأمم المتحدة هذه الأهداف عام 2015، كما حظيت بدعم الشركات والمنظمات الدولية الاخرى. وتتميز المبادرة بشموليتها وتكامل عناصرها وترابط أهدافها التي تقع في صلب جميع ركائز الاستدامة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية، بما يشمل الفقر والتعليم والصحة والمساواة بين الجنسين والجوع والعدالة الاجتماعية، والطاقة والمياه وتغير المناخ، والنمو الاقتصادي والعمل اللائق والصناعة والاستهلاك والشراكات والسلام. كما تتسم باحتوائها على أدوات لمتابعة التنفيذ وقياس مستوى تقدم كل دولة مشاركة بمسار خطة التنمية المستدامة. في هذا السياق، تُدرِج التقارير الدورية، التي تُعد من قِبل فرق متخصصة من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية، نتائج القياس وتستعرض العوائق الجوهرية أمام التحول الجذري المنشود، وتتيح المجال لإعداد الخطط العلاجية والتطويرية لسد الثغرات وتحسين الأداء، كما تفسح المجال لترتيب الدول المشاركة حسب تحصيلها. فعلى سبيل المثال، احتلت فنلندا، هذا العام 2021، المرتبة الاولى وحصلت على علامة 85.9%، تلتها السويد ثم الدنمارك. لهذه المبادرة أثر كبير في إثارة الوعي بأخطار الاستهلاك المفرط للموارد والممارسات غير المسؤولة. كما أن أثرها التحفيزي واضح في سياق حشد الجهود واستنهاض الدول والمؤسسات والطاقات الفردية للالتزام بالخطة وابتكار الحلول. وعلى الرغم من أن الخطة ما زالت قيد التنفيذ، إلا أن بعض الدول المشاركة نجحت في تحقيق إنجازات ملموسة في رحلتها نحو الاستدامة.
إقرأ أيضًا: د. تفيدة الجرباوي تكتب: "الاستدامة: المفهوم والركائز"
تعد فرانكفورت، مدينة مستدامة لكونها المركز المالي لألمانيا، ولحفاظها على مسطحاتها المائية ومساحاتها الخضراء التي تشكّل 52% من أراضيها. كما أنها أعدت خطة استدامة تسعى من خلالها للحفاظ على نظافة المياه، ورفع كفاءة الطاقة مع التحول لاستخدام مصادرها المتجددة بالكامل بحلول عام 2050، وحماية المناخ والحد من انبعاثات الكربون بنسبة 50% بحلول عام 2030.
وتتميز سنغافورة باستخدامها أساليب مبتكرة مكنتها من استخدام مياهها غير العذبة بما يشمل التحلية وإعادة التدوير وتجميع مياه الأمطار، وتحسينها للنقل العام بالتركيز على زيادة استخدام الدراجات والسيارات الكهربائية وإنشاء محطات شحن لها. لدى سنغافورة مزارع للطاقة النظيفة وتشتهر بمبانيها وأحيائها الخضراء المصممة بطرق توفر الطاقة وتسمح بالمشي وتزويد السكان بالخدمات السريعة.
ما يميز ستوكهولم احتلالها للمرتبة الأولى في الاتحاد الأوروبي في استهلاك الأغذية العضوية، واعتمادها على الطاقة المتجددة، وإعادة تدوير الزجاجات والعلب، وسعيها لتصبح خالية من الوقود الأحفوري بنسبة 100% مع نهاية عام 2050.
أما لندن، مدينة السُياح، فقد اتخذت اجراءات عديدة لتحسين جودة الهواء والحد من الضوضاء وإعادة تدوير النفايات والحفاظ على المساحات الخضراء والمتنزهات، وتسيير الحافلات الكهربائية والهجينة والتي تخفض من انبعاثات الكربون بنسبة 40%. هذا وتسعى المدينة الى تخفيض الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 60% بحلول عام 2025.
ثالثاً: الشركات المستدامة: أدى التزايد الملحوظ في الوعي البيئي لدى المستهلكين، في الآونة الأخيرة، الى تغيير سلوكهم فاصبحوا أكثر اهتماماً بفحص تأثير المنتج على البيئة، وتسببت ضغوطاتهم المتزايدة في دفع الشركات لتبني نهج الاستدامة في جوهر عملياتها، بل غدت مبادئ الاستدامة من أهم الأُسس التي تستند إليها الشركات في التنافس على تسويق منتجاتها. وفي هذا السياق، تسعى الشركات المستدامة إلى تخفيف أثرها السلبي على البيئة الى الحد الأدنى أو إلى محاولة احداث أثر إيجابي عليها، كما تعمل جاهدة للمساهمة في تلبية الاحتياجات المجتمعية والاقتصادية. في تنافسها، تستند الشركات الى المعايير والمؤشرات التي تم تطويرها لتصنيف الشركات حسب قطاع الإنتاج.
في العام الماضي، وبناء على مؤشر داو جونز للاستدامة، حصلت مجموعة شركات سيارات "بي أم دبليو" على علامة 80% واحتلت المرتبة الأولى من بين 39 شركة متنافسة، وصُنفت على أنها الأكثر استدامة في العالم بسبب تحسن ادائها في جميع مجالات التقييم الشاملة للحوكمة والاقتصاد والبيئة والمجتمع. ففي جميع مواقع إنتاجها، تستخدم المجموعة مصادر متجددة توفر الطاقة الخضراء لتصنيع سياراتها، وتستخدم المواد الصديقة للبيئة في صناعة مقصورات الركاب، وقد نجحت في تخفيض استهلاك الطاقة لكل سيارة منتجة بنسبة 40%.
وفي إدارتها لسلسلة التوريد، تعتبر رائدة في تعزيز ثقافة الاستدامة، فقد عملت بمنهجية على بناء المعايير البيئية والاجتماعية، وتزمع على تحديد البصمة الكربونية للموردين قبل منحهم عقود العمل معها. تُصدر المجموعة تقارير الاستدامة، وقد التزمت باتفاقية باريس للمناخ وأعلنت عن توجهاتها الاستراتيجية في مكافحة الاحتباس الحراري بما يتضمن تخفيض نسبة انبعاث الكربون لكل سيارة تنتجها الى الثلث حتى عام 2030. ويشمل هذا التخفيض جميع مراحل إنتاج السيارة بدءاً بسلسلة التوريد وانتهاء باستخدام السيارة. تسعى المجموعة لزيادة كفاءة الطاقة واستخدام تقنية الرقمنة، ولإنتاج سيارات قابلة للتدوير بنسبة 100%، كما تهدف الى تخفيض نسبة الانبعاث الكربوني من جميع سياراتها إلى 40% مع 2030، وذلك من خلال زيادة إنتاجها للسيارات الكهربائية التي ستشكل ثلثي السبعة ملايين سيارة المزمع إنتاجها.
نبعت كل المبادرات أعلاه من الإيمان بجدوى دمج أبعاد الاستدامة في جوهر الأعمال، واعتمدت على الالتزام الجدي في تحقيق خططها، وربما طمحت الى تغيير الثقافة السائدة كضرورة لتحقيق رؤاها. استكمالاً للموضوع، سألقي الضوء في مقالتي القادمة على المبادرات العربية قبل الحديث عن الوضع الفلسطيني.