أريحا-وفا- نديم علاوي-قبيل بزوغ شمس النهار الأولى في صباحات أريحا، يمكن أن ترى عجلات الشاحنات المحملة بالخضار والفواكه، وحناطير وجرارات زراعية، يقودها مزارعون قادمون من الأغوار الوسطى، تنفض غبار الشوارع، فيما تتعالى الأصوات في الأسواق رويدا رويدا..
بالقرب وداخل سوق أريحا المركزية المعروفة بـ"الحسبة"، تصطف الشاحنات المحملة بسلة أريحا الزراعية على الأرصفة والطرق وسط المدينة، مشكلة سلسلة متواصلة، لتبدأ معها حركة المتسوقين والتجار.
من بعيد، يشدك المشهد على اصوات صادحة تدلل على خيرات الأرض، ومع اقترابك نحوهم تسمع "تمتمات" عن مصير رزقهم المحتوم عن حالة التآكل الخفي لأراضيهم الزراعية في الأغوار الوسطى، ومعاناتهم اليومية.
هناك، على أول الصباح، يبدأ العد التنازلي على عروض اسعار الخضار والفواكه التي تملأ المكان، وسط منافسة ونشاط مفعم لباعة الخضار "الطازجة" و"الملونة" في سوق "الحسبة" التي تعكس زواياها حالة فئات المجتمع وقدرتها الشرائية واقبالها وتعاملها مع النَخب الفلسطيني الأول من خضراوات وفواكه أريحا والأغوار.
وهناك أيضا، رغم عشوائية البيع المرتبطة بالمواد اللازمة للإنتاج المناسب والمناخات الصالحة لزراعة بعض الخضروات دون الأخرى، يجد بعض زبائن الجملة "القطفة الأولى" للأصناف الزراعية، مصدرا ملائما لشراء كميات وفيرة لبيعها في اسواق اخرى في القرى والبلدات والمدن الفلسطينية.
ذاته السبب هو ما دفع أحد المارين "خضرجي"، لاعتماد "حسبة" أريحا مصدرا اساسيا ليعبِئ "صناديق" محله الواقع في إحدى بلدات محافظة القدس بخضار الأغوار، ذلك أن "الأسعار مناسبة.. والجودة عالية، والكميات متوفرة ومتنوعة على مدار العام" كما قال.
الباعة انفسهم يشيرون إلى أن ما توفره الأغوار من بيئة خصبة للخضار يسمح لأصاحبها ببيعيها لمتسوقين وتجار دون الذهاب لـ"الحسبة"، ذلك أن صباحات أريحا "قصيرة" وذروة شمسها تأتي باكرة.
"هي مكرمة ربانية لطبيعة الانتاج المتميزة في الأغوار وما تشكله من عامل جذب، خاصة أنها طازجة وتباع ضمن منافسة حرة"، يقول الدلال عبد القادر أبو ناصر الحاوي، الذي يعتبر سوق الحسبة المحرك الأساسي للقطاع الزراعي في أريحا والاغوار.
ويضيف ان اشكالية مزارعي الأغوار الرئيسية تتمثل بعدم وجود ما اسماه "خطة اقتصادية آمنة" تضمن استمرار التطور الزراعي وتبدد مخاوف المزارعين، آملا بمواصلة دعم هذا القطاع الحيوي بما يضمن تميزه وديمومته.
ويؤكد الحاوي، أن هذه الأسواق يقف على عاتقها مصير مئات العائلات: الباعة، المزارعين، كبار وصغار التجار.. وأكثر من ذلك، عصب الدولة الفلسطينية الوليدة.
ويؤكد رئيس غرفة تجارة وصناعة أريحا تيسير حميدة، أن 60 الى 100 طن تخرج إلى السوق ومركزه الأساسي "الحسبة" بمعدل 80 طنا يوميا.
وتبلغ اجمالي المساحة المزروعة في محافظة أريحا والأغوار 45 الف دونم خلال الموسم الحالي، منها 22 الف دونم خضراوات مكشوفة ومحمية، و23 ألف دونم نخيل، وفق مدير زراعة أريحا والأغوار أحمد الفارس، مضيفا ان انتاج اريحا الزراعي يمثل ما يقارب الثلث من انتاج الضفة الغربية.
وفيما يتعلق بمخاوف مزارعي الأغوار، يشير الفارس، الى آخر قرارات الاحتلال المتعلقة بمنع تصدير المنتجات المحلية إلى الخارج، وهو أمر اذا ما جرى تطبيقه يوما ما، وفي أي مرحله من المراحل السياسية الصعبة، سيجعل آلاف الاطنان من الأصناف الزراعية المختلفة في "مهب الريح" وعُرضة لخسائر كبرى، لا يمكن للمزارعين والقطاع الزراعي تحملها.
أضف الى ذلك، القيود العديدة التي تفرضها سلطات الاحتلال الاسرائيلي على حركة المزارعين، والخدمات والتجارة الزراعية، وهو ما يكبد المزارعين تكاليف مالية اضافية. وتشير التقديرات بحسب دراسة اعدها "الاونكتاد" الى أن تكاليف التصدير والاستيراد التي يتكبدها المزارعون والمنتجون الفلسطينيون تعادل ضعف التكاليف التي يتحملها نظراؤهم الاسرائيليون، بينما تتطلب اجراءات الاستيراد أربعة أمثال الوقت الذي يمضيه المستوردون الاسرائيليون عن أنشطة مشابهة.
غير أن "الهم الأكبر والأخطر" بحسب مزارعين وتجار وفعاليات اقتصادية التقتهم "وفا"، سيظل محاولات الاحتلال المحمومة الرامية الى ضم الأغوار الفلسطينية وبسط السيادة الاسرائيلية عليها، وهو ما يتطلب "خطة مجابهة" على مختلف الصعد، والساحات الفلسطينية والعربية والدولية، لانقاذ القطاع الزراعي الذي يشكل وما زال مغزى عميق لدى الشعب الفلسطيني، وأهمية كبرى لهويته الوطنية التي ترمز الى الصمود والتجذر في الأرض.