في ظل جريمة الإبادة، تعود الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط حتى أصبح المصطلح مبتذل في السياق الفلسطيني وخرج عن تعريفه النظري أو العملي وهنا يهدف مقال اليوم لإعادة تعريف التكنوقراط ووضعه في السياق الفلسطيني لمحاولة الإجابة عما تحتاجه فلسطين في هذه المرحلة.
في العام 1919، فكر المهندس هنري سميث أن تخصصه الجامعي والمهني قد يكون فعالاً وأكثر أهمية من إنتمائه السياسي وهو عضو بالكونغرس الأمريكي الديمقراطي فكتب مقالاً في مجلة "الإدارة الصناعية" بعنوان "التكنوقراط: طُرق ووسائل كسب الديمقراطية الصناعية"، ويعتقد أن هذه كانت أول مرة يستخدم فيها هذا المصطلح.
ثم عام 1932، أسس كل من المهندس هوراد سكوت وعالم الجيولوجيا ماريون كينغ هوبرت حركة اسمها "حركة التكنوقراط" أي شركة تكنوقراطية، واقترحا استبدال الأموال بشهادات الطاقة، أي أن يصبح المهنيون واولي الألباب هم أصحاب السلطة ليوجهوا اقتصاد الدولة لتصبح دولة منتجة، وليقضوا على العجز المادي والديون والبطالة بأفكارهم العلمية أي رأس مالهم كان الأفكار والرؤية لتطبيق هذه الحلول! وهذا لب الموضوع في فهم هذا المصطلح.
لغويا، "تكنو" أي التقني والمهني و"قراط" أي النخبة ومن هنا التعريف أن من يتقلد المنصب الحكومي هو التقني صاحب المعرفة من النخبة، وتعريف النخبة هنا لا يرتبط بالطبقة الاجتماعية على أساس مادي بل يرتبط بمهنية هذه الفئة ومعرفتها.
الفهم البسيط في الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط هو تشكيل حكومة كفاءات بغض النظر عن الانتماءات السياسية والحزبية، أي اختيار وزراء ورئيس وزراء على أساس خبراتهم في مجالات معينة سواء علمية أو تقنية، دون الالتفات لانتماءاتهم السياسية.
في الأنظمة الديمقراطية يتم اختيار الوزراء على أساس تمثيل أحزاب سياسية معينة تفرزها الانتخابات، عندما يتعلق الأمر بتشكيل حكومة تكنوقراط، توضع الحسابات والتقسيمات السياسية على جنب، ويكون التركيز على العلم، الخبرة، الكفاءة والتخصص والمقدرة العملية.
كلمة تكنوقراط لا تعني المال! لا تعني شبكة علاقات عامة ولا تعني الفهلوة ولا تعني العالم أو الأكاديمي المتقوقع بين الكتب وجدران المكتبات.
التكنوقراط هو المتخصص صاحب المعرفة والفعال، من لا يكتفي بالتشخيص بل يملك القدرة على طرح الحلول وتقديم الأفكار. حكومة تكنوقراط أي تطبيق المنهج العلمي في حل المشكلات الاجتماعية والأزمات، من خلال تقديم حلول للتحديات بمختلف القطاعات.
فلسطين تحتاج لأصحاب الحكمة المنعكسة من الواقع والعلم والتجربة معا ولكن ليس بطريقة الاقتباس، يكفي اقتباس! تجربتنا نوعية وليس من الضروري إسقاط تجارب الدول الأخرى متوقعين النجاح!
منصب رئيس الوزراء في فلسطين هو ابتكار أمريكي جاء لتقليص صلاحيات الرئيس أي السلطة التنفيذية العليا، في الواقع ومنذ تعيين أول رئيس وزراء لم تتحقق هذه القاعدة.
في السياق الفلسطيني، التكنوقراط يحتاج لمهارة في التفكير النقدي والتحليل المنطقي المرتكز على المصلحة الوطنية وتكريس فكرة الوحدة وتوحيد الرواية الفلسطينية وإثبات أن غزة جزء لا يتجزأ من فلسطين لا بل أنها العمود الفقري في أي مرحلة مستقبلية، هنا نحتاج للمختصين في الإدارة والهندسة والثقافة والطاقة والمياه والمناخ والأدب والعلوم من الطب إلى العلوم السياسية/العلاقات الدولية، السياسة العامة أو القانون الدولي والتفكير الاستراتيجي لإدارة الاعمال لمواجهة التحديات تحت الاحتلال.
تكليف رئيس وزراء جديد لتشكيل حكومة تكنوقراط "تحت الاحتلال"، نحتاج لمن ينتمي لفلسطين وليس بالضرورة لفصائل منظمة التحرير، الانتماء يجب أن يكون فلسطيني بامتياز على المستويين الماكرو والمايكرو، مطلوب التكنوقراط الذي يقدم أفكار وحلول للخروج من الوضع الراهن الذي فرضه علينا الاحتلال. مطلوب أن يتم تقديم برنامج واضح فيه خطط تتضمن أفكار وحلول واقعية لمواجهة الأزمات بعيدا عن الفهلوة والعلاقات العامة المفرغة من الحقيقة:
نتحدث عن الوزارات السيادية أيضًا! نتأمل أن يكون قادرًا على تشكيل مجلس كامل جديد قوامه الفكر والفكرة ونرفض التبريرات حول جدارة بعض الوزراء الحاليين وعدم ضرورة استبدالهم، فالتغيير صحي ومع الاحترام والتقدير لكل الوزراء، هناك كفاءات وأفكار جديدة لا بد من استثمارها.
في ظل غياب المجلس التشريعي ستكون اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير مرجعية هذه الحكومة ولا ننسى صلاحيات الرئيس بمقتضى المادة 43 التي تمنحه السلطات التشريعية، نتمنى من هذه المرجعية أن تدعم تشكيل حكومة جديدة من الوزراء الشباب وأصحاب الخبرات والكفاءات بغض النظر عن الانتماءات الحزبية وفي كافة الوزارات والسيادية منها، فالأساس أن يحدد الاختصاص والكفاءة أهلية الشخص لتولي منصب عام وليس انتماءه السياسي فقط، الوزارة تكليف وليس تشريف وهذه قاعدة مقدسة يجب تكريسها.
إن صياغة كتاب التكليف دقيقة وشاملة في ظل الوضع الراهن من الانقسام السياسي، وتراجع الدعم الدولي والضغط الأمريكي واستمرار المعاناة الشعبية، في ظل جريمة الإبادة وسياسات التهجير ومحاولة حرمان الشعب من حق تقرير المصير، نتأمل من الحكومة القادمة أن تتمكن من تحقيق أولويات الشعب المتمثلة بالوحدة وسيادة القانون والحريات وعدم الاكتفاء بكتاب تكليف يجتر من تجارب الماضي.
أولويات عقد الانتخابات ودعم أهالي الأسرى والشهداء والجرحى وصمود المواطن مع تمكين المرأة والشباب بالتعاون بين القطاعات المختلفة وترتيب البيت الداخلي إداريًا واقتصاديًا واجتماعيًا حتى القدس والتحرر هي أمور بديهية ولكنها حصرت في الشعارات وهذا ما يجب تجنبه.
من سيلقب تكنوقراط، عليه أن يقدم "الأفكار" الجديدة المبتكرة المتأصلة وطنيا لمواجهة المرحلة حتى يحصل على الشرعية.