واشنطن-أخبار المال والأعمال- يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفرض وضع جديد في غزة، حيث عبّر صراحةً عن رغبته في السيطرة على القطاع ونقل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، وهو المقترح الذي أثار معارضةً شديدةً من الفلسطينيين كما كافة الدول العربية.
وقال ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن "الولايات المتحدة ستقوم بتسوية الأرض في غزة، والتخلص من المباني المدمرة، وخلق تنمية اقتصادية ستوفر عدداً كبيراً من الوظائف والمساكن لسكان المنطقة".
وذهب ترامب إلى مستوى أبعد حيث وعد بتحويل غزة إلى "ريفييرا"، في إشارة إلى جعلها منطقة سياحية. ويقترح أن تتدخل واشنطن في المنطقة في إطار "امتلاك طويل الأجل بهدف جلب الاستقرار للمنطقة والشرق الأوسط"، على حد تعبيره.
فما هي المقومات الكامنة في غزة التي جعلت الرئيس ترامب يعاود لبوس رداء المطور العقاري؟
طموحات ترامب
السيطرة على غزة لم تكن أول أهداف ترامب التي أثارت الجدل عالمياً. سبق أن تسبب في زوبعة من التوترات السياسية مع عدة بلدان، حيث عبر أكثر من مرة عن رغبته شراء جزيرة غرينلاند، الإقليم التابع للدنمارك والذي يتمتع بحكم ذاتي، قائلاً إن ملكية الولايات المتحدة للجزيرة وسيطرتها عليها "ضرورة مطلقة" للأمن القومي.
كما اقترح ترامب ضم كندا لتكون الولاية رقم 51 في الولايات المتحدة وهدد أيضاً بمعاودة بلاده فرض السيطرة على قناة "بنما"، وهي طريق شحن عالمي رئيسي في الدولة الواقعة بأميركا الوسطى لها أهمية استراتيجية بالغة الأهمية.
حتى قبل توليه السلطة، كان ترامب يكشف عن تهديدات مثيرة للجدل، لكنه يتراجع عنها سريعاً. ولعل تأجيل الرسوم المفروضة على كندا والمكسيك لمدة شهر يعزز الرأي القائل بأنه يلجأ لهذه التهديدات والتصريحات المثيرة للجدل كوسيلة تفاوضية. لكن في حالة غزة قد يكون الأمر مرتبطاً بمحاولة لدفع مسلسل تطبيع الدول العربية مع إسرائيل، حليفة واشنطن، إلى الأمام وهو المسار الذي بدأ في السنوات الماضية وتوقف في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
تصريحات ترامب تكشف أنه يسعى لتحويل غزة من صفقة سياسية إلى مشروع عقاري، ولكن ما الذي لمحه الرئيس الأميركي في هذه البقعة الفقيرة وأيقظ داخله رجل العقارات القديم، ودفعه للحديث بمفردات رجال الأعمال بدلاً من لغة السياسيين؟
وراء ذلك التحول عدة عوامل ترتبط بالموقع الجغرافي الاستراتيجي للقطاع والثروات الطبيعية المتوفرة فيه والمنطقة ككل.
ما أهمية غزة جغرافياً؟
بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي على البحر المتوسط وتواجدها في منطقة ذات توتر مستمر يؤثر على المنطقة ككل، لدى غزة أهمية تجارية واقتصادية مهمة، فقد سعت أميركا لتطبيق خطة طموحة لإنجاز ممر تجاري بين آسيا وأوروبا عبر الشرق الأوسط، لكن الحرب الإسرائيلية على غزة عرقلت تنفيذ هذا الممر الاقتصادي.
هذا المشروع ذو أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، حيث يتم الرهان عليه لتحقيق عدة أهداف، من بينها مجابهة مبادرة الحزام والطريق الصينية لمشروعات البنية التحتية، وتعزيز نفوذ أميركا في ما يُطلق عليها دول "الجنوب العالمي".
وجود غزة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يجعل منها نقطة وصل بين آسيا وأفريقيا وبين الشرق الأوسط وأوروبا، وهذا يتيح لها إمكانيات كبيرة للتجارة والنقل البحري.
ومن الناحية السياسية والأمنية فهي تلعب دوراً محورياً في دينامية الأمن في المنطقة نظراً لقربها من إسرائيل ومصر، إذ إن الوضع الأمني في غزة يؤثر بشكل مباشر على الأمنين الإقليمي والدولي أيضاً، ويمتد التأثير إلى الاقتصاد بشكل واضح، ولعل انخفاض إيرادات قناة السويس المصرية إلى أدنى مستوياتها منذ عقدين بسبب الحرب لخير لدليل.
كان الممر الاقتصادي الذي تدعمه أميركا عبر المنطقة أحد أكثر المشروعات طموحاً، وتحول إلى حقيقة في قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في أيلول/سبتمبر من عام 2023 حين تم الإعلان عن سكك حديدية جديدة ستربط شبكات النقل البحري والبري ببعضها، لكن الحرب الإسرائيلية على غزة أوقفت وصول المشروع إلى مراحل متقدمة.
قد يكون هذا المشروع ممر التجارة الأكثر طموحاً في العالم بحسب بلومبرغ، إذ من المفترض أن يربط مومباي ثم دبي والرياض إلى حيفا وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي لمسافة تقارب 4830 كيلومتراً.
حقل غاز ضخم
لدى غزة أيضاً أهمية على مستوى الغاز الطبيعي، حيث يتم التخطيط لتطوير حقل "غزة مارين" البحري مع الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس" المملوكة للحكومة المصرية، بحسب رئيس سلطة الطاقة والموارد الطبيعية الفلسطينية السابق ظافر ملحم في حديث سابق مع "الشرق".
يحوي حقل "غزة مارين"، الواقع على بعد نحو 30 كيلومتراً من ساحل غزة بين حقلي الغاز العملاقين "لوثيان" و"ظُهر"، ما يزيد عن تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، وهي كمية أكبر بكثير من احتياجات الأراضي الفلسطينية.
بحسب ملحم، فإن استخراج الغاز الطبيعي من "غزة مارين" سيتم دون أي شراكة إسرائيلية أو مشغل إسرائيلي". كانت تل أبيب أعطت الضوء الأخضر مبدئياً لتطوير حقل الغاز الفلسطيني، بإعلان موافقتها الأولية، لكنها أشارت إلى أن هذه الخطوة تتطلب تنسيقاً أمنياً مع كل من مصر والسلطة الفلسطينية.
رغم التطمينات الإسرائيلية، فإن استمرار الاحتلال يعيق تطوير الحقول المتوفرة قبالة سواحل غزة، كما يؤثر على استغلال أمثل للثروات في المنطقة ككل بالشكل الذي يعود بالنفع على اقتصاداتها. وما دام الوضع السياسي والأمني غير مستتب فإن هذه الثروات تبقى غير مستغلة بالشكل الكافي وبالتالي ضياع منافع اقتصادية كبيرة.
يُنظر إلى حقل "غزة مارين" على أنه فرصة للسلطة الفلسطينية التي تعاني من نقص الأموال وقد يسمح لها بالانضمام إلى طفرة الغاز في شرق البحر المتوسط، مما يوفر مصدراً كبيراً للدخل لخفض اعتمادها على المساعدات الأجنبية والطاقة الإسرائيلية، وبما يساعدها أيضاً في عملية الإعمار.
بالإضافة إلى هذا الحقل الذي يدخل ضمن نفوذ غزة، تضم منطقة شرق المتوسط المعروفة بحوض "الليفانت" إمكانيات تُقدر بنحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي بقيمة صافية تبلغ 453 مليار دولار بأسعار 2017، وحوالي 1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج بقيمة صافية تبلغ نحو 71 مليار دولار، بحسب تقرير أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بعنوان: "التكاليف الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني: الإمكانات غير المحققة من النفط والغاز الطبيعي" عام 2019.
ويؤكد علماء الجيولوجيا وخبراء اقتصاد الموارد الطبيعية، ضمن التقرير، أن الأراضي الفلسطينية المحتلة تقع فوق خزانات ضخمة من ثروات النفط والغاز الطبيعي، سواءً في البر وساحل البحر الأبيض المتوسط قبالة قطاع غزة. لكن المؤسسة الأممية أشارت إلى أن "الاحتلال يمنع الفلسطينيين من تطوير حقول الطاقة لديهم لاستغلال هذه الأصول والاستفادة منها. وبالتالي، حُرم الشعب الفلسطيني من فوائد استخدام هذا المورد الطبيعي لتمويل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتلبية احتياجاته من الطاقة".
مليارات الإعمار في غزة
بعد أشهر من الحرب، تحتاج غزة إعادة إعمار مكلفة للغاية. فقد يتطلب ذلك بناء 150 ألف وحدة سكنية بتكلفة تصل إلى نحو 15 مليار دولار، وفقاً لإفادات محمد مصطفى (رئيس الوزراء الحالي) رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني السابق في تصريح سابق للشرق.
لكن التكلفة طويلة المدى لإعادة إعمار غزة بعد الحرب قد تصل إلى 50 مليار دولار، وتستغرق ما يقرب من عقدين، بحسب إفادات سابقة لعبد الله الدردري، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية.
سعى ترامب لإضافة صبغة إنسانية على أهدافه بخصوص أبناء غزة، حيث قال في مؤتمر صحفي إنه "يطمح لأن يعيش أهل غزة في أماكن جميلة جداً، وآمنة، ولطيفة"، وذلك بعد أن وصف القطاع بأنه كارثة، وتعهد بأن تساهم الولايات المتحدة في تمويل مناطق بديلة للعيش إلى جانب عدد من الأطراف في المنطقة دون أن يسميها. ما يعني تهجيراً قسرياً جديداً للفلسطينيين الذين لا ينسون حتى الآن تجاربهم السابقة منذ 1948 يوم أُخرجوا من ديارهم، على وعدٍ بالعودة إليها، لكنهم لم يتمكنوا من العودة حتى اليوم.
ستكون غزة محط اهتمام القطاع الخاص أيضاً، فقد سبق للملياردير الأميركي إيلون ماسك أن عرض المساعدة في إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب. كما تتطلع الشركات المصرية للمشاركة في عملية الإعمار.
وتفيد تصريحات ترامب إلى بعض التفاصيل عن خطته، حيث تحدث عن إمكانية نقل الفلسطينيين إلى مناطق عدة وليس فقط في الأردن ومصر، حيث قال: "يمكن أن تكون هناك أكثر من منطقتين ليتم ترحيلهم إليها، وذلك بالتأكيد أفضل بكثير من العودة إلى غزة، التي شهدت عقوداً وعقوداً من الموت".
تركيز ترامب على تطوير مناطق بديلة يكشف طموحاته بتحويل غزة من صفقة سياسية إلى مشروع عقاري، وهو القطاع الذي طالما اشتغل فيه. وتلتقي أهدافه على اعتبار أن قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، وجراء تدميرها خلال الحرب تحتاج لإعادة إعمار طويلة الأجل، ولذلك يدفع لسيناريو الترحيل إلى مناطق أخرى جديدة. لكن ذلك لا يلغي سيناريوهات أُخرى قد تكون الآن موضع نقاش في الكواليس بين فريق الرئيس الأميركي، والمسؤولين الإسرائيليين، والفلسطينيين، وقادة المنطقة، حتى لا تُشعل "ريفييرا ترامب" فتيل حروب جديدة.
المصدر: الشرق