بقلم: الخبير الاقتصادي-إبراهيم اشتية
تمثل مشكلة الفائض النقدي من عملة الشكيل في فلسطين تحديًا اقتصاديًا كبيرًا، يعود في الغالب إلى سياسات الاحتلال الإسرائيلي المدمرة للاقتصاد والقطاع المصرفي الفلسطيني.
في صميم هذه المشكلة أن فائض من الشيكل الإسرائيلي المتداول في السوق الفلسطينية يتراكم باستمرار وأن المشكلة ليست جديدة.
يتفاقم هذا الفائض بسبب القيود الإسرائيلية، والتي لها آثار بعيدة المدى على القطاع المالي الفلسطيني والاستقرار الاقتصادي والنسيج الاجتماعي.
يستعرض هذا المقال كيف تتسبب السياسات الإسرائيلية في تفاقم مشكلة الفائض النقدي، ونتائجها، والتوصيات لحلها.
مشكلة الفائض النقدي
تُعَدُّ مشكلة الفائض النقدي في فلسطين نتيجة تقاطع عدة عوامل، وتلعب السياسات الإسرائيلية دورًا محوريًا فيها.
تُشرف سلطة النقد الفلسطينية على السياسة النقدية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنها تفتقر إلى الاستقلالية الكاملة والأدوات التي يمتلكها البنك المركزي في ظروف دولة مستقلة، بسبب سياسات الاحتلال وتملصه من الاتفاقيات والقوانين الدولية.
وتعرف سلطة النقد الفلسطينية "فائض الشيكل" على أنه النقد المتوفر لدى البنوك الفلسطينية والذي يزيد عن 6% من إجمالي الودائع لكل عملة ومنها الشيكل، وبالتالي يجب إعادته إلى البنك المركزي الإسرائيلي. أما مصدر النقد الفائض فيأتي من عدة جهات وأهمها: العمال الفلسطينيون في إسرائيل والذين يتقاضون أجورهم نقدًا، ومشتريات أهلنا في القدس والداخل المحتل (أراضي الـ48) من السوق الفلسطينية، حيث يتم الدفع نقدًا، والتجارة غير الرسمية بين فلسطين وإسرائيل.
وحسب تقديرات سلطة النقد الفلسطينية في العام 2024، فإن حجم الشيكل المتداول في السوق الفلسطينية يصل إلى 57 مليار شيكل.
وبلغ فائض الشيكل حوالي 20 مليار شيكل سنويًا، وهي مبالغ تتكدس أحيانًا في خزائن البنوك الفلسطينية من دون أن تتمكن الأخيرة من استخدامها، الأمر الذي يؤدي إلى تآكل قيمة العملة وخسارة عالية للقطاع المصرفي.
وبلغ فائض النقد لدى أحد البنوك الفلسطينية 3 مليارات شيكل ما يسبب بخسارة للبنك تقدر بـ 30 مليون دولار (110 مليون شيكل).
أسباب خسارة البنوك تكمن في: عدم التمكن من ربط الأرصدة الفائضة في البنوك الإسرائيلية، واستيفاء فائدة لا تقل عن 3% على أساس سنوي، واضطرار البنوك الفلسطينية للاقتراض من البنوك الإسرائيلية لتغطية تكاليف استيراد السلع، بالإضافة إلى دفع الفوائد للمودعين على أموال غير مستغلة والمعروفة بتكلفة الفرصة البديلة.
وتتفاقم المشكلة بسبب السياسات الإسرائيلية التالية:
التحكم الإسرائيلي في تدفق العملة: الشيكل الإسرائيلي هو العملة الأساسية المستخدمة في الأراضي الفلسطينية، إضافة الى الدينار الاردني والدولار الأمريكي، حيث لا تمتلك فلسطين عملتها الوطنية.
ويعود هذا الاعتماد على العملة الإسرائيلية إلى السيطرة السياسية والاقتصادية الشاملة التي تمارسها إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني.
وتسيطر السلطات الإسرائيلية على تدفق الشيكل من وإلى الأراضي الفلسطينية، حيث تفرض قيودًا صارمة على كمية النقد التي يمكن للبنوك الفلسطينية إيداعها في البنوك الإسرائيلية.
وتدعي إسرائيل أن هذه القيود تمنع غسل الأموال والأنشطة غير القانونية الأخرى، لكنها من الناحية الفعلية تخدم إسرائيل في السيطرة على النظام المالي الفلسطيني.
القيود على العمليات المصرفية: تعمل البنوك الفلسطينية تحت قيود كبيرة تفرضها السلطات الإسرائيلية. على سبيل المثال، يتم تنظيم كمية النقد التي يمكن نقلها من البنوك الفلسطينية إلى البنوك الإسرائيلية بشكل صارم، وتعادل مليار ونصف دولار أمريكي كل ثلاثة أشهر.
ويخلق هذا الوضع عنق زجاجة حيث تراكم البنوك الفلسطينية فائضًا نقديًا لا يمكنها إيداعه أو نقله إلى النظام المصرفي العالمي.
بالإضافة إلى ذلك، تؤدي القيود الإسرائيلية إلى تأخير أو تقييد نقل الأموال، ما يزيد من تعقيد إدارة الاحتياطيات النقدية في الأراضي الفلسطينية.
تأثير الاحتلال على النشاط الاقتصادي: يلعب السياق الأوسع للاحتلال الإسرائيلي دورًا حاسمًا في مشكلة الفائض النقدي. ويفرض الاحتلال قيودًا شديدة على حركة الأشخاص والبضائع، ما يخنق النشاط الاقتصادي ويدفع جزءًا كبيرًا من الاقتصاد الفلسطيني إلى القطاع غير الرسمي.
هذا الاقتصاد غير الرسمي، الذي يعمل بشكل كبير على المعاملات النقدية، يصعب تنظيمه، وهو أحد المساهمين الرئيسيين في فائض النقد المتداول.
علاوة على ذلك، فإن السيطرة الإسرائيلية على الحدود والتجارة تزيد من تعقيد الوضع. ويمنع الاحتلال الفلسطينيين من استيراد وتصدير السلع بحرية، ما يحد من قدرة الشركات الفلسطينية على الحصول على المواد الخام اللازمة أو تصدير منتجاتها إلى الأسواق الخارجية.
هذه القيود تجعل الشركات أقل قدرة على المنافسة، ما يدفعها للالتفاف حول النظام الرسمي والعمل في السوق غير الرسمية، حيث تُجرى المعاملات نقدًا لتجنب التعقيدات والقيود المفروضة.
عواقب مشكلة الفائض النقدي
يترتب على تراكم الفائض النقدي في فلسطين عدة آثار سلبية، يتفاقم العديد منها بفعل السياسات الإسرائيلية:
الضغط على النظام المصرفي: تجبر القيود على إيداع النقد في البنوك الإسرائيلية البنوك الفلسطينية على الاحتفاظ بكميات كبيرة من النقد. ويخلق هذا الوضع تحديات تشغيلية، بما في ذلك زيادة تكاليف تخزين وتأمين النقد، بالإضافة إلى مشاكل السيولة، حيث أن عدم القدرة على نقل الفائض النقدي إلى النظام المصرفي الرسمي يحد من قدرة البنوك الفلسطينية على الإقراض والاستثمار، ما يخنق النمو الاقتصادي، علماً أن المعاملات الدولية التي تنفذها البنوك الفلسطينية تخضع للرقابة والسيطرة الإسرائيلية كون المصارف الإسرائيلية هي الوسيط ما بين القطاع المصرفي الفلسطيني والعالم.
الضعف أمام الجرائم المالية: تجعل مشكلة الفائض النقدي النظام المالي الفلسطيني أكثر عرضة لغسل الأموال والتهرب الضريبي والجرائم المالية الأخرى، مع وجود كميات كبيرة من النقد غير القابل للتتبع في التداول، ويصعب اكتشاف الأنشطة غير القانونية والسيطرة عليها. هذا لا يقوض نزاهة النظام المالي فحسب، بل يعوق أيضًا الجهود المبذولة لبناء اقتصاد شفاف وخاضع للمساءلة.
الكفاءة الاقتصادية: تؤدي مشكلة الفائض النقدي إلى عدم الكفاءة الاقتصادية الكبيرة. فقدرة سلطة النقد الفلسطينية على تنفيذ سياسة نقدية فعالة تكون محدودة بشدة بسبب الفائض النقدي في التداول، ودون السيطرة على العرض النقدي، لا يمكن لسلطة النقد الفلسطينية إدارة التضخم بشكل فعال، أو التأثير على أسعار الفائدة، أو تحقيق الاستقرار في الاقتصاد، وهذا بدوره، يقلل من ثقة المستثمرين ويحد من التنمية الاقتصادية.
توصيات لمعالجة مشكلة الفائض النقدي
تتطلب معالجة مشكلة الفائض النقدي جهودًا محلية داخل فلسطين، بالإضافة إلى تغييرات في السياسات الإسرائيلية التي تفاقم المشكلة حاليًا. وفيما يلي بعض التوصيات:
رفع القيود الإسرائيلية على إيداع النقد: إحدى الخطوات الأكثر أهمية في معالجة مشكلة الفائض النقدي هي أن ترفع السلطات الإسرائيلية القيود المفروضة على كمية النقد التي يمكن للبنوك الفلسطينية إيداعها في البنوك الإسرائيلية.
ويجب على سلطات الاحتلال زيادة حدود الإيداع وتبسيط عملية تحويل النقد إلى البنك المركزي الإسرائيلي، ويؤدي ذلك إلى تقليل الفائض النقدي في السوق الفلسطينية، وتخفيف العبء التشغيلي عن البنوك الفلسطينية.
ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن وزير المالية الإسرائيلي الحالي لا يبدي استعدادًا لتغيير السياسة القائمة ويرفض التفاوض أو التعاون مع الفلسطينيين في هذا الصدد، ما يزيد من تعقيد الجهود المبذولة لحل المشكلة، ويفرض تحديات إضافية على الاقتصاد الفلسطيني.
الاستقلالية المالية: يجب على السلطات الإسرائيلية أن تتيح المزيد من الاستقلالية المالية للاقتصاد الفلسطيني، ويمكن أن يشمل ذلك رفع القيود عن حركة البضائع والأشخاص، ما يساعد على تقليل الاعتماد على المعاملات النقدية.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدي توفير الدعم لتطوير أنظمة الدفع الرقمية داخل فلسطين إلى تقليل الطلب على النقد الفعلي، ودمج المزيد من الاقتصاد في القطاع المصرفي الرسمي.
ويمكن أن تقوم السلطة الفلسطينية بالتفكير جدياً باعتماد الدولار الأمريكي كعملة رسمية في فلسطين إلى حين إصدار عملة وطنية فلسطينية. حيث يساهم هذا في الانفكاك عن عملة الشيكل والقيود المفروضة عليها من قبل إسرائيل.
الترويج للعملة الرقمية والمدفوعات الإلكترونية: يمكن أن تستكشف سلطة النقد الفلسطينية إمكانية إدخال عملة رقمية تتناسب مع السياق الفلسطيني.
ويمكن أن تؤدي العملة الرقمية إلى تقليل الطلب على النقد الفعلي، وتوفير سلطة النقد الفلسطينية بمزيد من السيطرة على العرض النقدي.
ويمكن أن يشجع استخدام المحافظ الإلكترونية وحلول الدفع الرقمية الأخرى أيضًا على دمج المزيد من الاقتصاد في النظام المالي الرسمي.
تشجيع تنظيم الاقتصاد غير الرسمي: تعدُّ معالجة الاقتصاد غير الرسمي أمرًا ضروريًا للحد من مشكلة الفائض النقدي.
ويجب على السلطة الفلسطينية أن تشجع الشركات الصغيرة والعاملين غير الرسميين على الدخول في الاقتصاد الرسمي.
وقد يتضمن ذلك تقديم حوافز ضريبية، والوصول إلى قروض صغيرة، وتخفيف العقبات البيروقراطية لتسجيل الأعمال.
وسيؤدي تنظيم الاقتصاد إلى تقليل المعاملات النقدية وزيادة تدفق الأموال إلى النظام المصرفي. أما بالنسبة للعمال الفلسطينيين في إسرائيل، فيجب أن تصبح دفعاتهم من خلال البنوك، وقد بدأت ولكن بشكل ضئيل وهذا يحتاج إلى تعاون السلطات الاسرائيلية لإجبار المشغلين الإسرائيليين على ذلك.
التعاون الدولي والإقليمي: يمكن للمجتمع الدولي، وخصوصًا الدول التي لديها علاقات دبلوماسية قوية مع كل من إسرائيل وفلسطين، أن يلعب دورًا في الوساطة ودعم الجهود لحل مشكلة الفائض النقدي.
ويمكن أن تقدم المؤسسات المالية الدولية - مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي - الضغط والحلول والمساعدة الفنية الفاعلة للنظام المالي الفلسطيني، بينما يمكن أن يفتح التعاون الإقليمي طرقًا جديدة لإدارة تدفقات النقد، مثل إنشاء شبكات مصرفية إقليمية تقلل من الاعتماد على البنوك الإسرائيلية.
تتداخل مشكلة الفائض النقدي في فلسطين بشكل عميق مع السياسات الإسرائيلية والسياق السياسي والاقتصادي الأوسع في المنطقة.
وبينما تُعدُّ الجهود المحلية داخل فلسطين، مثل تعزيز الشمول المالي والترويج للمدفوعات الرقمية، ضرورية، فإن تحقيق تقدم كبير يتطلب تغييرات في السياسات الإسرائيلية التي تفاقم المشكلة حاليًا، من خلال رفع القيود على إيداع النقد، وتسهيل المزيد من الاستقلالية المالية، وتشجيع تنظيم الاقتصاد غير الرسمي، وتعزيز التعاون الدولي، ويمكن التخفيف من مشكلة الفائض النقدي وتعزيز الاستقرار الاقتصادي في فلسطين.
إن معالجة هذه القضايا لن تفيد الاقتصاد الفلسطيني فقط، بل ستسهم أيضًا في استقرار المنطقة بشكل عام.
وأخيرًا، إذا استمرت إسرائيل في عدم السماح بنقل الشيكل لماذا لا تقوم وزارة المالية – على سبيل المثال - بالدفع بدل استيراد البترول نقداً؟ باعتقادي، من المهم التفكير بجدية بإجراء مؤتمر صحفي أمام العالم وخلق ضجة كبرى ودولية حول الأزمة.