طوكيو-أخبار المال والأعمال- إذا طلبت من شخص ما أن يذكر لك ما يعرفه عن اليابان، ففي الأغلب سيكون أول ما يستعرضه هو التقدم التكنولوجي، وسيحدثك عن "كوكب اليابان" حيث السلوكيات العامة تتسم بكثير من الأدب واللياقة في التعامل.
وسيحدثك أيضا عن ثالث أقوى اقتصاد في العالم، وربما يتطرق الحديث إلى مصارعة السومو وتاريخ الساموراي، أيضا الين الياباني وسوق الأسهم ربما يكونان ضمن الحوار.
لكن المؤكد أن الحديث لن يتطرق للديون اليابانية، وحتى إذا تحدث عن الديون اليابانية فإن ما سيرد إلى الذهن أن عديدا من الدول مدينة لليابان، "ألسنا بصدد الحديث عن أحد أقوى الاقتصادات العالمية".
لكن المفاجأة الحقيقية التي قد لا يعلمها الجميع أن ثالث أقوى اقتصاد في العالم يرقد فوق قنبلة من الديون، قابلة للانفجار في أي لحظة. فالإنفاق الكبير وتكاليف الرعاية الاجتماعية المتزايدة لمجتمع يزداد شيخوخة يوما بعد آخر وبشكل سريع، ترك اليابان أمام كومة كبيرة من الديون تبلغ 9.43 تريليون دولار أمريكي ما يوازي 263 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ضعف ديون الولايات المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لتكون اليابان أعلى الاقتصادات المتقدمة مديونية.
تنفق اليابان 22 في المائة من ميزانيتها السنوية على سداد ما عليها من ديون ودفع الفوائد، بينما تنفق 15 في المائة على الأشغال العامة والتعليم والدفاع مجتمعة، ومع ارتفاع أسعار الفائدة عالميا يتوقع أن تصل نسبة سداد الديون وفوائدها نحو 25 في المائة من إجمالي الميزانية العامة بحلول 2025، لتكون أعلى نسبة ديون إلى الناتج المحلي الإجمالي ضمن مجموعة الدول السبع، فهل تقترب الجزر اليابانية من الاصطدام بجبل جليد الديون، أم أن السفينة اليابانية من الضخامة بما يستبعد معه أن تغرق.
يبدو أن قضية الديون باتت راسخة في الهيكل الاقتصادي الياباني إلى الحد الذي دفع رئيس الوزراء فوميو كيشيدا إلى أن يتجنب الحديث عن موازنة الميزانية اليابانية بحلول 2025، ورفض إعطاء تاريخ محدد تخفض فيه اليابان ما عليها من ديون.
الدكتور أس.دي بيتر أستاذ الاقتصادات الآسيوية في جامعة لندن يشير إلى أن عديدا من الدول تفاقمت لديها قضية الديون بسبب جائحة كورونا، لكن اليابان على وجه التحديد تواجه صراعا داخليا يدور بين مدرستين حول مفهوم الديون.
ويقول إن "المعسكر الأول وكان قائده رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي وهذا التيار يرى أن اليابان لديها مجال لإنفاق مزيد بما في ذلك زيادة ميزانية الدفاع لمواجهة الصين، حتى وإن كان ذلك عن طريق الاقتراض، أما المدرسة الأخرى فتقودها وزارة المالية، حيث تقول إن البلاد يمكن أن تغرق تحت وطأة الديون المتراكمة".
ويضيف "أنصار المدرسة الأولى وتسمى مدرسة الإنفاق الحر ترى أن تحقيق التوازن المالي بين الإيرادات والمصاريف أمر لا معنى له، وطالما أن البنك المركزي الياباني يمتلك نصف ديون الحكومة فلا توجد مشكلة ديون في اليابان، فالبنك المركزي من وجهة نظر تلك المدرسة شركة تابعة للحكومة، ومن ثم تقول لا يوجد خطر من تأثير الديون في الأداء الاقتصادي في اليابان".
ويتابع "وزارة المالية اليابانية تعد أن هذا التفكير يمكن أن يقضي على اليابان فلا يمكن أن تستمر في الاقتراض إلى الأبد، وبعد انتهاء كابوس جائحة كورونا، فإن اليابان بحاجة إلى كبح جماح ديونها".
في ظل تلك التحديات، حذرت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات الائتمانية من أن رفع أسعار الفائدة قد يؤثر في تصنيف الديون السيادية اليابانية لأن الشركات اليابانية اعتادت على أسعار الفائدة المنخفضة للغاية التي تقارب الصفر، والآن رفع أسعار الفائدة، سيجعل تلك الشركات تواجه تكلفة إنتاجية أعلى، وبذلك فإن إجراء تعديلات على السياسة النقدية في اليابان يعني أن مسار الدين العام الياباني يواجه مخاطر جادة للغاية.
تكشف آخر البيانات الحكومية أن نصيب الفرد من الدين الحكومي تجاوز عشرة ملايين ين ياباني أي ما يقارب من 75 ألف دولار للفرد، وذلك في الوقت الذي وصلت فيه الإيرادات الضريبية إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق مع تعافي الشركات اليابانية من التداعيات الاقتصادية السلبية لجائحة كورونا، إلا أن الإنفاق العام لا يزال يتجاوز إيرادات الدولة مما يدفع الحكومة إلى مواصلة الاقتراض.
لا ينفي الدكتور ساروش ميهرا أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة ليدز عمق أزمة الدين العام في اليابان، لكنه يعدها عارضا اقتصاديا وليست المشكلة الرئيسة.
ويقول إن "انخفاض معدل المواليد وشيخوخة السكان يشكلان خطرا ملحا على المجتمع الياباني، وعلى الرغم من أن معدلات المواليد تنخفض في الدول المتقدمة فإن المشكلة أكثر حدة بشكل خاص في اليابان، لأنها تضم ثاني أعلى نسبة في العالم من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما بعد دولة موناكو الصغيرة. والعام الماضي انخفض عدد المواليد إلى أقل من 800 ألف".
ويضيف "تقلص عدد المواليد وزيادة معدلات الشيخوخة يعني أن اليابان ستواجه مشكلة نقص في الأيدي العاملة، ولن يكون امامها من وسيلة للحفاظ على مستوى معيشة مرتفعة سوى الاقتراض، ما يعني أن قضية الدين الياباني ستزداد حدة في المستقبل".
يعتقد بعض الخبراء أن اليابان تواجه في الوقت الحالي ثلاثة تحديات تؤثر في أدائها الاقتصادي، التضخم المرتفع، وغياب الثقة في الاستقرار المالي، وتراكم الديون، وتعد تلك المشكلات الثلاث بمنزلة تحذير للاقتصاد الدولي، حيث يخشى من أن علامات عدم الاستدامة المتزايدة في الاقتصاد الياباني قد تجعل البلاد مصدرا للصدمات الاقتصادية العالمية.
يقول المحلل المالي إف. ديزموند "هناك احتمال ضئيل من أن تتمكن اليابان من أن تنهض من تحت جبل الديون، فسكان اليابان يشيخون بسرعة، ومعدل النمو الاقتصادي المحتمل بالكاد يصل إلى 0.5 في المائة، والدين العام سيواصل النمو خاصة مع استمرار حاجة اليابان للاقتراض وارتفاع أسعار الفائدة، والسياسة النقدية شديدة السهولة التي تبناها بنك اليابان المركزي لنحو العقدين أدت إلى توسع هائل في حجم الميزانية العمومية، وهي الآن تعادل 135 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة المقابلة للاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي، وهذا بالطبع انعكس على الين وفي العام الماضي انخفضت العملة اليابانية إلى أدنى مستوى لها في 32 عاما مقابل الدولار الأمريكي".
في الثامن من نيسان (أبريل) الماضي تولى كازو أويدا، منصب محافظ بنك اليابان، وحرص في كل مؤتمر صحافي أن يؤكد أن أولويته ستكون دائما مراجعة السياسة النقدية لليابان، وتبني سياسة نقدية مرنة، خاصة وأن التضخم وصل إلى أكثر من ضعف هدف التضخم البالغ 2 في المائة، لكنه حرص أيضا على التحذير بأن حالة من عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية آخذة في التصاعد.
مع هذا يخشى الخبراء من أن يؤدي أي إجراء يتبناه البنك المركزي الياباني تتغير بمقتضاه السياسة النقدية الراهنة إلى تداعيات كبيرة على الأسواق المالية العالمية، فاليابان على غرار الفيدرالي الأمريكي والمركزي الأوروبي تمد الاقتصاد العالمي بالسيولة، ويمكن أن ينعكس ذلك على قيمة الين الياباني بما يوجد ضغطا على أسواق الأسهم والائتمان العالمي.
ولا شك أن المسؤولين في الفيدرالي الأمريكي يراقبون الوضع في اليابان حاليا عن كثب، فالسياسة النقدية لمحافظ البنك المركزي الجديد لم تظهر نتائجها بعد، وعملية التحول إلى سياسة نقدية جديدة في اليابان قد تؤدي إلى اهتزازات وعدم استقرار مالي خاصة في الأسواق الآسيوية، وهو ما سيدفع الفيدرالي الأمريكي إلى التدخل السريع، حتى وإن اضطر للتخلي عن خططه الراهنة لتشديد السياسة النقدية، تفاديا لإحداث هزة ضخمة في الأسواق الدولية.
المصدر: الاقتصادية