بشكل عام، تسببت ممارسات الإنسان الضارة بالبيئة وبأخيه الإنسان بالتغيرات المناخية وبنضوب الموارد الطبيعية اللازمة لاستدامة عيشه الرغيد. وعندما أدرك العالم ذلك، دأبت الدول على استنهاض طاقاتها البشرية والاستثمار فيها لإصلاح الأخطاء البشرية المتراكمة عبر الزمن، وإعادة التوازن قبل فوات الأوان. وعلى الرغم من تعدد العقبات، فقد نجحت الدول المتقدمة، منذ مطلع هذا القرن، في تنفيذ مبادرات تركت آثاراً تنموية ملموسة وساهمت في تغيير ممارسات البشر نحو الاستدامة.
في الحالة الفلسطينية، وكما وضحتُ في مقالتي السابقة، شكلت ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العقبة الجوهرية ذات الأثر الكارثي على استدامة فلسطين الأرض والإنسان. وتتمثل العقبة الثانية بمحدودية مصادر التمويل غير المشروط بتقديم التنازلات عن الحقوق الوطنية في الصراع ضد الاحتلال. أما العقبة الثالثة فترتبط ببنية الفرد الفلسطيني بما يشمل قدراته وقناعاته وقيمه وممارساته التي تضر ببيئته الجغرافية والبشرية، ولا تساعد على تحقيق الاستدامة بالكفاءة المطلوبة.
إن مواجهة العقبتين الأولى والثانية صعبة للغاية كونها مرتبطة بتعقيدات سياسية واقتصادية إقليمية وعالمية. أما العقبة الثالثة فيمكن معالجتها حيث إنها تقع ضمن الشأن الفلسطيني الداخلي. يتطلب تخطي هذه العقبة الاستثمار في بناء الأجيال الفلسطينية لتمكينها من المساهمة الفاعلة في استدامة فلسطين والعيش عليها بأمان. ما أدعو له في هذه المقالة، هو الإسراع بتنفيذ مبادرة يتم من خلالها إجراء مراجعة جدية وتغييرات جوهرية في النظام التعليمي ليصبح منسجماً مع حاجات بناء القدرات اللازمة لتحقيق مؤشرات الاستدامة. ولتعميق الأثر وتوسيع نطاقه، فإن المبادرة تمتد لتشمل التعليم النظامي الرسمي، وغير الرسمي المرتبط بالعمل والأسرة ولا ينتهي بشهادات، وغير النظامي المرتبط بالدورات القصيرة والندوات.
إقرأ أيضًا: د. تفيدة الجرباوي تكتب: "الاستدامة: المفهوم والركائز"
تنبع الحاجة الماسة لهذه المبادرة من ضعف مخرجات التعليم وعدم قدرتها على تحمل مسؤوليتها في العمل وفي الأسرة والمجتمع. وتتركز أهميتها في إتاحة الفرصة لتنشئة الأجيال الفلسطينية لتكون قادرة على معالجة قضايا القرن الواحد والعشرين التي تقع الاستدامة في مقدمتها. وعلى الرغم من الجهود الوطنية المبذولة، يستدعي التدهور المستمر في مؤشرات الاستدامة في فلسطين الإسراع في تنفيذ المبادرة. أدناه تلخيص للجهود ذات العلاقة ومؤشرات الاستدامة.
اهتمت الخطة الوطنية الفلسطينية قيد التنفيذ "أجندة السياسات الوطنية 2017-2022: المواطن أولاً" بخدمة المواطن، واستندت إلى ثلاث ركائز مترابطة تؤدي للاستدامة. تمثلت الركائز في إنهاء الاحتلال، والإصلاح الحكومي، والتنمية المستدامة. ولا عجب في ذلك إذ إن الخطة جاءت بعد إعلان الحكومة عن التزامها في العام 2016، بتحقيق مؤشرات التنمية المستدامة 2030 التي اعتمدتها الأمم المتحدة في العام 2015.
وفي مجال التنمية المستدامة، التزمت الحكومة بتحقيق أهدافها السبعة عشر، حتى 2030. كما كلفت جميع وزاراتها وهيئاتها بإعداد الخطط القطاعية بما ينسجم مع الخطة الوطنية. وشكلت الحكومة فريقاً وطنياً لمتابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. ضم الفريق الوطني ممثلين عن القطاع الحكومي والخاص والأهلي وأصدر تقارير التقدم في سير العمل للأعوام 2018 - 2019. ولتوضيح أثر انتشار جائحة كورونا على مستوى التقدم في تحقيق مؤشرات كل هدف، أصدر الفريق الوطني تقريراً مقارناً للعام 2020.
باختصار، يمكن الاستنتاج بأن الخطة الوطنية كانت متوائمة مع الاحتياجات الفلسطينية المُلّحة ومع أهداف التنمية المستدامة. عكست الخطة اهتماماً بخدمة المواطن الفلسطيني وبتعزيز صموده على أرضه وبدوره في تحقيق الاستدامة. لقد أولت الحكومة أهمية لموضوع المتابعة فأفردت فريقاً خاصاً للقيام بهذه المهمة وبالتقرير عن الإنجازات. وتمثلت أهم الفجوات في التفاوت في نوعية الخطط القطاعية المقدمة من الوزارات والهيئات الحكومية، وعدم توفر العديد من البيانات اللازمة لقياس نسبة كبيرة من مؤشرات الأداء، ونقص في السياسات واتساع الفجوة ما بين حجم الإنجازات الفعلية والمخطط لها.
إقرأ أيضًا: د. تفيدة الجرباوي تكتب: "الاستدامة: المبادرات العالمية"
في مجال تحقيق أهداف التنمية المستدامة من قبل الجهات الفلسطينية ذات الاختصاص، أظهرت تقارير الفريق الوطني، تفاوتاً في مستوى التقدم قبل انتشار جائحة كورونا. وبفعل الجائحة، تدهور معظم مؤشرات الأداء، بينما ثبُت بعضها أو تحسن.
على سبيل المثال استمرت معدلات الفقر بالزيادة منذ العام 2011 فقد كانت 25.7% ووصلت إلى 29.2% في العام 2017. كما استمرت معدلات البطالة في الارتفاع فقد كانت 25.3% في العام 2019 ووصلت إلى 25.9% في العام 2020. ومن الجدير بالذكر إلى نسب الفقر والبطالة أعلى في قطاع غزة بحجم ملموس عن الضفة الغربية، وهي أعلى بين النساء مقارنة بالرجل. وتواصل التدهور، أيضاً، في مؤشرات الأمن الغذائي والمساواة بين الجنسين والنمو الاقتصادي. وذكر تقرير العام 2020 أن فلسطين ليست على المسار الصحيح لتحقيق أهداف الاستدامة، الأول (القضاء على الفقر) والثاني (القضاء على الجوع) والخامس (المساواة بين الجنسين) والثامن (النمو الاقتصادي).
في سياق التعليم، أشارت التقارير إلى تدهور ملموس في استخدام التكنولوجيا بما فيها تحميل البرامج واستخدامها، وإعداد العروض التقديمية. كما أشارت إلى عدم كفاية الكوادر المؤهلة. وفي مجال العنف، تبين أن 90.1% من الأطفال (1-17 سنة) قد واجهوا، في العام 2019، عقوبة بدنية أو اعتداء نفسيا من القائمين عليهم. تدل التقارير أيضاً على تراجع معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد الفلسطيني، وتراجع نصيبه من الطاقة النظيفة. أما مؤشر سلوكيات الفرد، فقد أظهر زيادة في حجم الانبعاثات الغازية الضارة بالمناخ بمقدار 65.2% ما بين العام 2004 و2018.
تعود أسباب زيادة حجم الانبعاثات الغازية المذكورة في التقرير إلى الزيادة في التصنيع، وضعف الاهتمام الوطني بمشاريع البيئة والمناخ، وضعف القدرات والإمكانيات الفنية. جميع ما ورد أعلاه تفاقم مع الجائحة وكان حجم التفاقم على وضع المرأة أكبر، إذ زاد العنف ضدها ووقعت عليها أعباء مركبة شملت العمل من البيت وتدريس الأطفال ورعاية كبار السن وإدارة شؤون المنزل.
إقرأ أيضًا: د. تفيدة الجرباوي تكتب: "الاستدامة: المبادرات العربية"
التعليم الجيد هو الطريق للاستدامة، والمبادرة لتغيير النظام الحالي تتطلب توفر الإرادة السياسية، وتخصيص الدعم المالي اللازم، وتشكيل فريق وطني من الكفاءات الفلسطينية ليعمل بمساندة من الخبرات العربية والعالمية.