غزة-(الجزيرة)-تحقيق/ محمد أبو شحمة
منذ اللحظة الأولى لإعلان وزارة الصحة الفلسطينية في غزة تسجيل عدد من حالات مصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) أواخر مارس/آذار 2020 سارع المهندس الأربعيني حسام أبو عودة لشراء عدد من المعقمات من إحدى الصيدليات بمدينة خان يونس جنوب القطاع، لاستخدامها وعائلته ظناً منه أنها ستحميه من المرض، لكنه تعرض لتشققات والتهابات في جسده وفقاً لتأكيدات طبية.
ما تعرض له أبو عودة كان نتيجة لعدم مطابقة المعقمات التي تنتجها وتبيعها شركات أدوية ومستحضرات تجميل في القطاع للمعايير الفلسطينية، حيث تبين بعد الفحص المخبري، احتواؤها على مواد شديدة السمية، وبكميات تفوق بكثير المسموح به فلسطينياً وعالمياً، في الوقت الذي تزايدت فيه حاجة المواطنين لها في ظل الخوف من الإصابة بفيروس كورونا المستجد.
ومثلما فعل أبو عودة، استخدم ياسر منصور العامل في محطة للوقود معقماً اشتراه من إحدى الصيدليات في مدينة غزة، فأصيب بعد استخدامها ببعض الحروق بيديه، ليؤكد له الطبيب المعالج أن سببها استخدامه مادة كيميائية سامة، وتبين بعد الفحص المخبري أنها مادة الميثانول شديدة السمية التي استخدمتها الشركة المصنّعة بدلاً من الإيثانول الذي نفدت كمياته من السوق بسبب إقبال شركات تصنيع الأدوية والمعقمات على شرائها، ولم يكن بالإمكان أحضار المزيد منها للقطاع بسبب صعوبة إدخالها نتيجة للحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع.
الطبيب رامي ترزي، الحاصل على درجة الماجستير في الأمراض الجلدية والتناسلية،والذي عالج بعض الحالات التي تأثرت بالمواد المعقمة غير المطابقة للمواصفات، أكد أن عيادته استقبلت مرضى عانوا من أعراض صحية مشابهة نتيجة "استخدامهم معقمات غير مطابقة للمواصفات ومغشوشة، خلال الفترة الأخيرة".
وقد توصل معد التحقيق، وفق نتائج عينات مخبرية، وتأكيدات رسمية، إلى أن كبرى شركات الأدوية ومستحضرات التجميل الموجودة في قطاع غزة، والتي تتخذ من الضفة الغربية مقراً رئيسياً لها، استخدمت مواد شديدة السمية في إنتاج المعقمات وبيعها في أسواق القطاع، وذلك بسبب غياب المادة الأساسية لتصنيع تلك المواد وهي الإيثانول، واستبدالها بالميثانول.
فحص عينات
وأظهرت نتائج فحص عينات، أجراها مختبر وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع ما بين مارس/آذار ونوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، والبالغ عددها 284 عينة لشركات مختلفة، وجود مادة الميثانول السامة بنسبة 99% بإحدى العينات، و87% بعينات أخرى، في حين أن المواصفة المسموح بها يجب ألا تتجاوز نسبتها 0.0025%.
صالح الطويل رئيس قسم التحاليل الدوائية بمختبر وزارة الصحة أكد أن "نسبة العينات التي أثبت علمياً، ووفق الفحص المخبري، عدم مطابقاتها للمواصفات، بلغت 55% من إجمالي الفحوصات التي أجراها المختبر".
وتبين وفق تأكيدات الطويل أن "شركات أدوية، وأخرى مصنعة للمعقمات، من بين العينة، اعتمدت على مادة الميثانول السامة في إنتاج المعقمات، رغم تحذيرات وزارة الصحة من خطورة هذه المادة على صحة الإنسان، وذلك بسبب اختفاء مادة الإيثانول من السوق" مشيراً الى أنه وبعد إجراء الفحوصات المخبرية أوقفت الوزارة عمل شركات "عمدت لغش المواطنين وإنتاج المعقمات من مادة الميثانول".
إلى جانب المعقمات التي احتوت على المادة السامة، بيّن رئيس قسم التحاليل الدولية في مختبر وزارة الصحة أن بعض المنتجات خلت من أي كحول، وكانت عبارة عن مادة "جل للشعر" شكلت نسبتها 35% من إجمالي العينات المفحوصة.
ويعرف الميثانول بأنه مركب هيدروكربوني يتألف من الكربون والهيدروجين والأكسجين الذي ينتمي إلى صنف الكحولات وصيغته الكيميائية "سي إتش 3 أو إتش" (CH3OH). ويستخدم كمذيب جيد لبعض المواد العضوية، ووقود عالي النقاوة لبعض الآلات والسيارات.
ووضع معد التحقيق هذه المعطيات ونتائج التحليل بين يدي أستاذ الكيمياء بجامعة الأزهر البروفيسور عمر أبو تيم الذي أكد أن استخدام مركب الميثانول الكيميائي، من قبل شركات الأدوية في إنتاج المعقمات، قد يسبب العمى لمستخدميه.
تلف الخلايا
والميثانول حسب أبو تيم "مادة خطيرة تتحول في جسم الإنسان إلى مادة "فورمالدهايد" السامة جداً التي توثر على الإنسان، وتتسبب بتلف كثير من خلايا الجسم ومنها شبكية العين".
وتحظر المؤسسات الصحية، وفق تأكيد أبو تيم "استخدام الميثانول في تصنيع المعقمات، بسبب الحالة السمية الشديدة لهذا المركب الكيميائي، ودرجة الخطورة المعروفة على صحة الإنسان".
ويمنع بشكل مطلق، كما يؤكد أبو تيم "استخدام مركب الميثانول آدميا، مع ضرورة فرض الجهات الرسمية إجراءات صارمة على الشركات التي تقوم باستخدامه، خاصة أنها تعلم خطورته على صحة الإنسان".
ويتم إدخال الميثانول إلى غزة عبر استيراده من قبل شركات الأدوية الكبرى، ولكن له استخدامات خاصة بعيداً عن الاستخدام الآدمي، حيث يستخدم كمبيد ومذيب جيد لبعض المواد العضوية.
وكانت إدارة الغذاء والدواء الأميركية، قد أصدرت تحذيراً من استخدام الميثانول في المعقمات، كونها مادة سامة عند امتصاصها من خلال الجلد وربما تسبب الوفاة في حالة ابتلاعها.
وبحسب بيان لها نشرته في 27 يوليو/تموز 2020 حذرت هذه الإدارة "المستهلكين ومتخصصي الرعاية الصحية من استخدام بعض معقمات الأيدي التي تحتوي على الكحول نظرًا للوجود الخطير للميثانول أو كحول الخشب، وهي مادة غالبًا ما تستخدم لتكوين وقود ومضاد للتجمد الذي يمكن أن يكون ساما عند امتصاصه من خلال الجلد وكذلك يهدد الحياة عند بلعه".
وكانت إدارة الدواء الأميركية قد حذرت في وقت سابق من ذات الشهر حسب بيانها من "العدد المتزايد من الأحداث الضارة، بما في ذلك العمى، وتأثيرات القلب، والآثار على الجهاز العصبي المركزي، والاستشفاء والوفاة".
وكانت قد نشرت قائمة بالمواد الخطرة الممنوعة من الاستخدام في إنتاج المعقمات، وأشارت إلى أنه "في معظم الحالات، لا يظهر الميثانول على ملصق المنتج. ومع ذلك، فإن ليس مكونا مقبولا في أي دواء، بما في ذلك معقم اليدين، حتى لو كان مدرجا كمكون على ملصق المنتج". ووجد الاختبار المستمر لإدارة الغذاء الأميركية وجود تلوث بالميثانول في منتجات معقمات الأيدي تتراوح بين 1 و80%"، في حين وجد معد التحقيق الميثانول في بعض العينات بنسبة وصلت إلى 99%.
شركات أمام القضاء
وزارة الصحة في قطاع غزة، وأمام انتشار إنتاج المعقمات غير المطابقة للمواصفات، واستخدام مادة الميثانول السامة فيها، أحالت للنيابة العامة 5 شركات مصنعة لمواد التعقيم، ولكن لم تصدر بعد أحكام ضدها. وجاء القرار حسب المستشار القانوني للوزارة سعيد البطة نتيجة لخطورة ما تم القيام به، وهو استخدام مادة الميثانول في إنتاج المعقمات.
ولا تتهاون وزارة الصحة، وفق البطة "مع الشركات التي استخدمت مادة الميثانول، وأنتجت معقمات مخالفة للمواصفات والبروتوكولات الموجودة، كونها تتسبب في تفاقم المشكلة".
وعدا تأثيره على صحة المواطنين فإن "استخدام الميثانول مخالف للمواصفات والنسب المحددة حسب البروتوكولات المتعمدة التي تمنع منعاً باتاً استخدامه في المعقمات" وفقاً للمستشار القانوني بوزارة الصحة.
وقد توجه معد التحقيق إلى الجهات القضائية في قطاع غزة، وبعد بحث في آلاف القضايا لم يجد أي قضية منظورة أمامه لشركات معقمات استخدمت الميثانول أو خالفت المواصفة الفلسطينية في إنتاج التعقيم، وهو ما يعنى أن الملفات لا تزال لدى التحقيق في النيابة.
إتلاف وملاحقة
وإلى جانب وزارة الصحة، أكدت وزارة الاقتصاد الوطني في غزة استخدام بعض الشركات مادة الميثانول السامة في إنتاج المعقمات، وفقاً للناطق باسمها عبد الفتاح أبو موسى الذي أكد تعاون الوزارتين بإحالة الشركات المخالفة للنيابة العامة، إضافة إلى إتلاف كميات كبيرة من تلك المنتجات.
وأشار أبو موسى لتطابق نتائج فحوصات وزارة الاقتصاد لعينات من المعقمات مع نتائج العينات التي قامت وزارة الصحة بفحصها، مبيناً وجود مادة الميثانول في المعقمات الموجودة في أسواق قطاع غزة، وهو ما يعد مخالفة للقانون ويشكل خطورة ًعلى صحة الإنسان.
وتقوم وزارة الاقتصاد بجولات تفتيشية بشكل دوري، حسب أبو موسى، على الشركات المنتجة للمعقمات والمرخصة والذي يبلغ عددها 7 فقط في غزة، للتأكد من استخدامها مواد مطابقة للمواصفات، إضافة إلى التأكد من حصول الشركات على التراخيص اللازمة لإنتاج هذه المواد.
الشركات ترد
وتواصل معد التحقيق مع 6 من المصانع والشركات التي تنتج مواد التعقيم في محافظات قطاع غزة الخمس، وواحدة في مدينة رام الله بالضفة. ولدى سؤالهم عن المواد المستخدمة في صناعة المعقمات اختلفت الردود، فنصفهم قال إنه استخدم مواد مطابقة، وآخر قال في البداية إنه تم استخدام مواد بديلة بسبب عدم وجود المواد المطابقة في السوق.
أبرز تلك الشركات المصنعة للمعقمات -والتي تتخذ من رام الله مقراً- أكدت أنها استخدمت الميثانول في إنتاج المعقمات بنسبة مسموح بها، وعملت خلال فترة جائحة كورونا، كما تؤكد على إنتاج مواد معقمة مطابقة للمواصفات، وإرسالها إلى قطاع غزة للتسويق، وأن لديها شهادة صحية لتصنيع المعقمات، ولكن نتائج الفحوصات المخبرية أثبت استخدامها لهذا المركب الكيميائي بنسبة 99%، وهو ما تشير له الوثيقة رقم (1) المرفقة بهذا التحقيق.
الشركة (ب) والتي تنتج المعقمات داخل مصنع متواضع لها في مدينة جباليا شمال القطاع، أكد مديرها أنه بداية الجائحة ووصولها لغزة، اختفت مواد الكحول من السوق، مقابل وجود طلب كثيف عليها. وعملت شركته، وفق تأكيد صاحبها على استخدام الميثانول، ومواد أخرى غير مطابقة للمواصفات في إنتاج المعقمات وبيعها، ولكن بعد الفحوصات المخبرية وإجراءات الجهات الرسمية توقفت شركته عن استخدام تلك المواد.
وإلى جانب الشركتين، واجه معد التحقيق أيضا مصنعا صغيراً لإنتاج المنظفات في قطاع غزة، قام بإعداد بعض مواد التعقيم وببيعها للشركات على أنها مواد مطابقة للمواصفات، ولكنها خالية من المواد الفعالة وفق الفحص كما تبين الوثيقة رقم (2) أي عبارة عن "جل شعر". ولا يوجد أي مادة فعالة لها تعمل على القضاء على الفيروس. وأكد صاحب الشركة أنه يعمل دون حسابات علمية دقيقة، ولكن من خلال النظر بالعين المجردة، ولمس مواد التعقيم، ليعرف أنها جاهزة.
إشراف وتنسيق ميداني: وليد البطراوي