تداول العملات المشفرة .. إدمان من نوع جديد

Publishing Date
صورة توضيحية-تصوير وكالات

لندن-أخبار المال والأعمال- في دائرة جلسة للعلاج في منزل ريفي اسكتلندي يعود إلى القرن الـ18، توجد نصف دزينة من المدمنين المتعافين. ويتذكر كثير منهم، عندما كانوا في الحضيض، يحاربون الاكتئاب المزمن والتفكير في الانتحار.

يتشارك المرضى، وجميعهم من الذكور، قصصا مروعة عن التعامل مع إدمان من نوع جديد، هو تداول العملات المشفرة القهري. حيث يقول البعض "إن إدمانهم على تداول العملات المشفرة كان مقترنا بإدمان الكحول أو المخدرات"، بينما يقول آخرون "إنهم بدأوا بالتعامل مع تداول الرموز الرقمية مثل القمار".

قال أحد المرضى "كنت أقضي ثماني ساعات يوميا على موقع ريديت أقرأ أوراقا بيضاء عن العملات المشفرة، معتقدا أنني أقوم باتخاذ قرار عقلاني (...) كان الأمر سخيفا فقط".

إذ تقع محنتهم في صميم معضلة تواجه السياسيين في جميع أنحاء العالم وهم يحاولون التعامل مع تأثير العملات المشفرة في شعوبهم. حيث يدعو عديد من المشرعين والشركات إلى تصنيفها كخدمة مالية، الأمر الذي قد يتطلب معايير تنظيمية صارمة لكنه يوفر للمستهلكين حماية قانونية.

في محاولة لترسيخ مكانة لندن "كمركز" للابتكار في الأسواق المالية، وضعت الحكومة البريطانية إطارا شاملا لتداول العملات المشفرة من شأنه أن يجعلها تتماشى مع اللوائح المعمول بها للخدمات المالية.

لكن في المملكة المتحدة الشهر الماضي، ذكر تقرير صادر عن مجموعة قوية من أعضاء البرلمان من مختلف الأحزاب أنه يجب تنظيم العملات المشفرة مثل المقامرة، وقال التقرير "إن الناس يتداولون في أصول ليس لها قيمة جوهرية وليس فيها منفعة اجتماعية واضحة".

بالنسبة إلى أولئك الذين يقدمون العلاج لنحو 70 مريضا في مركز كاسيل كريج لإعادة التأهيل خارج مدينة إدنبرة، فإن تغيير الطريقة التي يتم بها تحديد الأولويات يجب أن يحدث بأسرع وقت ممكن.

ويصف مدمنو تداول العملات المشفرة تجربتهم "كما يصف أي مقامر إدمانه على القمار"، كما قال أنتوني ماريني، كبير الإخصائيين في مركز كاسيل كريج. "لذا، بالنسبة إلي، هل ينبغي تنظيمها على أنها قمار؟ بالتأكيد".

راجع أكثر من 300 مريض يعانون أحد أشكال الإدمان على تداول العملات المشفرة عبر مركز كاسيل كريج منذ أن فتح أبوابه أمام متداولي العملات المشفرة في 2018، واصفا نفسه بأنه أول مركز مختص في معالجة الإدمان على تداول العملات المشفرة في العالم.

5


ارتفعت كل الأيدي خلال الجلسة الجماعية، عندما سأل ماريني عما إذا كان أي مريض قد عانى أعراضا مثل التفكير في الانتحار أو الاكتئاب المزمن أو اليأس؟

قال ماريني "يجب أن يكون هناك تحذير صحي على منصات تداول العملات المشفرة، تماما مثل أي موقع للقمار. لقد فقد الناس عائلاتهم، وفقدوا وظائفهم، وقاموا بالاختلاس (...) يجب أن تكون هناك تحذيرات وتوعية بأن هذا أمر يمكن أن يقتل الناس بالفعل".

كان من الأمور المحورية في التقرير الصادر عن اللجنة المعينة من قبل وزارة الخزانة مخاوف من أن تسليم مهمة الإشراف على العملات المشفرة إلى هيئة تنظيم الأسواق الرئيسة في المملكة المتحدة، وهي هيئة السلوك المالي، من شأنه أن يعطي انطباعا بأن العملات المشفرة "أكثر أمانا مما هي بالفعل".

قال مدمن آخر على القمار لـ"فاينانشيال تايمز"، "كنت أرى العملات المشفرة كاستثمار، لذلك لم يكن اعتقادي في بداية الأمر أنني أقامر (...) لكنني لا أعتقد أن الأمر يسير على هذا النحو حقا".

وخلال جلسة العلاج في مركز كاسيل كريج، وصف المرضى استخدام تطبيقات تداول العملات المشفرة التي تم إنشاؤها لتشجيعهم على الاستثمار بشكل إلزامي والسعي خلف الربح السريع، مرددين صدى التكتيكات الأكثر قسوة في الفترة المبكرة التي شهدتها صناعة المراهنات عبر الإنترنت، التي تم كبت جماحها إلى حد ما عن طريق مزيد من الغرامات التي فرضتها لجنة القمار.

وقد أصبحت شركات الألعاب الآن مضطرة إلى تزويد العملاء بإمكانية الوصول إلى تكنولوجيا الاستبعاد الذاتي، في حين إن تطبيقات تداول العملات المشفرة ليست كذلك. كما سيتعين على منصات المراهنة عبر الإنترنت في المملكة المتحدة قريبا فرض حدود على الحصص التي يتم تداولها وإجراء تحققات أساسية حول قدرة المستخدمين على تحمل التكاليف، على الرغم من أن طريقة العمل لا تزال خاضعة للتشاور.

تجادل بيج بيرجز، مستشارة مكافحة الفساد والمخاطر الدولية في شركة روبس آند جراي للمحاماة، بأن احتمالية استعارة اللوائح التنظيمية من دليل القمار من المرجح أن تتعارض مع طموحات حكومة المملكة المتحدة في أن تصبح مركزا للقطاع.

كما انتقدت شركات العملات المشفرة النتائج التي توصل إليها التقرير، قائلة "إنها تقلل من أهمية الفوائد المحتملة للعملات المشفرة بالنسبة إلى الاقتصاد والمستهلكين". وتصف مجموعة الضغط البريطانية كريبتو يو كيه تقرير اللجنة المختارة بأنه "غير مفيد".

قال موقع جي إف أوه-إكس للتداول "إن جميع المستثمرين -سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات- يستحقون الوصول إلى الأسواق المنظمة التي تحدد اكتشاف الأسعار السوقية العادلة، تماما بالطريقة نفسها التي يتم بها اكتشاف الأدوات المالية أو السلع الأخرى. إن الخطاب حول تصنيف الأصول المشفرة باعتبارها قمارا غير مفيد أبدا ويمنح العملاء نتائج أسوأ".

علاوة على ذلك، أشارت وزارة الخزانة البريطانية المسؤولة عن تطوير القوانين بشكل خاص إلى أنها لن تتأثر بالتقرير.

وذكرت رسالة بريد إلكتروني حديثة من وزارة الخزانة إلى صناعة العملات المشفرة واطلعت عليها "فاينانشيال تايمز"، "تعد المخاطر التي تشكلها العملات المشفرة نمطية كتلك التي توجد في الخدمات المالية التقليدية، كما أن نظام الخدمات المالية -وليس نظام القمار-- هو الذي له سجل في التخفيف من حدتها".

لكن هناك أدلة متزايدة على أن الحدود الفاصلة بين تداول العملات المشفرة والمقامرة غير واضحة، وأن أسوأ العواقب الناجمة عن الإفراط في الاستخدام تبدو متشابهة بشكل لافت للنظر.

فيما وجدت دراسة في 2019 أجراها باحثون في جامعة روتجرز التي نظرت في 876 مقامرا كانوا يراهنون مرة واحدة على الأقل شهريا أن زيادة حدة مشكلة المقامرة بين هذه المجموعة كانت "مرتبطة بقوة" بتداول العملات المشفرة.

قال أحد المرضى في مركز كاسيل كريج "إن مشاعرك مرتبطة جدا بما يحدث في الرسم البياني، خاصة مع العملات المشفرة لأنها تعمل 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع. كنت أتحقق من هاتفي الساعة الثالثة صباحا، وبسببه ستفقد النوم".

3


خلال الأسبوع الذي انهارت فيه عملة تيرا المستقرة في أيار (مايو) الماضي، سجل المجلس الوطني الأمريكي لمشكلة المقامرة رقما قياسيا بلغ 19 ألف مستخدم، وهو العدد نفسه في الشهر العادي. ووجدت دراسة أجراها مختبر أبحاث بلوكتشين في 2023 أن مستخدمي العملات المشفرة الذين يقامرون أيضا يميلون إلى كونهم "شبابا ذكورا، ومتعلمين جيدا وميسوري الحال".

ستقيم العيادة الوطنية لمشكلة القمار التابعة لخدمة الصحة الوطنية، التي تم افتتاحها في 2008، أول عيادة هذا الشهر تركز فقط على المتداولين الأفراد المدمنين، كما يشكو نصف المرضى من تداول العملات المشفرة القهري.

حيث قالت آنا هيمنجز، الرئيسة التنفيذية لمنظمة جام كير التي ترعى مسألة المقامرة "إن التأثيرات الثلاثة التي نراها من القمار تمس الصحة العقلية والمالية والعلاقات. وفي تداول العملات المشفرة، ما نراه هو الشيء نفسه تماما".

لكن وضع العملات المشفرة في مجموعة قانونية واحدة دون أخرى يجلب المشكلات أيضا. تشير بيرجيز من "روبس آند جراي" للمحاماة إلى أن التعامل معها كالألعاب يمكن أن تكون له نتيجة "وضع العملات المشفرة خارج نطاق لوائح الخدمات المالية التقليدية".

قال كاليل فيلاندر، الأستاذ المساعد في جامعة ولاية واشنطن الذي يبحث في المسائل المشتركة بين العملات المشفرة والقمار، "إن عدم الحفاظ على بعض الإشراف من قبل هيئة السلوك المالي سيكون خطأ لأن العملات المشفرة من الواضح جدا أنها سلعة أو ورقة مالية".

السبب الآخر هو أن لجنة المقامرة، وهي الهيئة التي ستكلف بالإشراف على العملات المشفرة، تتمتع بموارد أقل من هيئة السلوك المالي، التي تضم أكثر من أربعة آلاف موظف.

لأعوام، اشتكى نشطاء الدعوة إلى "مقامرة أكثر أمانا" من أن ميزانية لجنة القمار البالغة 74 مليون جنيه استرليني مع 300 موظف فيها عاجزة عن مواجهة صناعة القمار في المملكة المتحدة التي تبلغ قيمتها 14 مليار جنيه استرليني.

"إن قطاع القمار كبير وينمو في هذا البلد (...) لذلك أعتقد أنه على المدى القصير سيكون من الصعب للغاية على لجنة القمار أن تتولى مسؤولية العملات المشفرة"، كما قالت همينجز.

لكن الجهتين التنظيميتين تدركان أن التكنولوجيا تطمس الحدود الفاصلة بينهما وتعهدتا بالعمل سوية. وكان الدافع وراء ذلك قبل عامين هو فشل شركة فوتبول إنديكس، وهي شركة مراهنات عبر الإنترنت، التي صنفت نفسها بأنها سوق أسهم لكرة القدم. وقد وضعت تحت الإدارة، وهو ما ترك آلاف العملاء غير قادرين على الوصول إلى أموالهم.

قال مات زارب كوزين، مدير منظمة كلين أب جامبلينج، "إن انهيار مؤشر كرة القدم كان من الممكن تفاديه ليس من قبل هيئة السلوك المالي التي حلت محل لجنة القمار بصفتها الجهة المنظمة، لكن من خلال عملهما معا. والأمر نفسه ينطبق على العملات المشفرة".

لكن بالنسبة إلى عديد من المدمنين، تعد حرب النفوذ التنظيمي نقطة خلافية ومتأخرة. كما قال أحد المرضى في مركز كاسيل كريج "ضع المقامرة والعملات المشفرة جنبا إلى جنب، وانظر إلى تداعيات كلتيهما، وانظر إلى شدة كلتيهما، وأخبرني أنهما ليستا الشيء نفسه".

المصدر: فاينانشال تايمز

4