لندن-أخبار المال والأعمال- خلال عامين من هيمنة جائحة كورونا على المشهد الاقتصادي العالمي، ارتفعت ديون الشركات وتضررت الأرباح، لكن ما أن تراجعت سطوة الجائحة نسبيا، وبدأ المشهد الاقتصادي في التحسن، فإن المخاوف بشأن عدم قدرة الشركات على سداد ما عليها من ديون تراجعت، وبات في إمكانها الوفاء بالتزاماتها للبنوك والمؤسسات المالية والدائنين عبر تعزيز قدرتها.
وكان يمكن للشركات التفاعل الإيجابي مع هذا الوضع حتى وإن تطلب الأمر ضخ مزيد من الاستثمارات عبر مزيد من القروض، لكن قبس النور هذا سرعان ما خفت، ولم يتوهج طويلا، فارتفعت معدلات التضخم، وأسرعت البنوك المركزية بالعمل على لجمها عبر رفع أسعار الفائدة، وبعد أن كان الحديث يدور عن سبل مكافحة التضخم، ساد في الأجواء قلق مشحون بالتوتر بأن التضخم سيصاحبه ركود اقتصادي، بما يترك بصمات شديدة السلبية ليس على الدول وحسب، بل على الشركات وديونها أيضا.
كانت ديون الشركات في ارتفاع منذ 2010 نتيجة الأزمة المالية التي ضربت العالم الغربي في 2008، وبفضل أعوام طوال من سياسات التيسير المالي وخفض أسعار الفائدة إلى مستويات متدنية للغاية، وصلت في بعض الأحيان إلى أقل من الصفر، بدأ الاقتصاد العالمي خاصة الأمريكي في التعافي، وبحلول الربع الثالث من 2019 وصلت الديون المستحقة على الشركات إلى مستويات قياسية جديدة.
الوضع بدأ في التغيير النسبي من آذار (مارس) الماضي، فعبء الديون العالمية للشركات انخفض لأول مرة منذ ثمانية أعوام بنسبة تقارب 2 في المائة تقريبا، مسجلا بذلك أول انخفاض سنوي في المديونية منذ 2014، وسط توقعات بسداد الشركات لمبلغ 270 مليار دولار إضافية حتى آذار (مارس) 2023 وذلك بناء على مستويات الديون المستحقة وتوقعات إصدارها.
وقالت لـ"الاقتصادية" مونيكا أرثر الخبيرة المصرفية إن "هناك قدرا لا بأس به من التباين في مستويات الديون بين الشركات، ويكشف تحليل البيانات على مستوى الشركة أن بعضا من أكبر الشركات العالمية، لا سيما تلك العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وخدمات الاتصالات، والرعاية الصحية، كانت تقود زخم الديون منذ 2010، ولحسن الحظ يبدو الآن أن هذه المجموعة في وضع أفضل في قدرتها على السداد من نظرائها في القطاعات الأخرى".
ويستند منطق هذا التحليل إلى الطريقة التي استجابت بها الشركات لصدمة وباء كورونا، إذ مددت كبرى الشركات المدينة آجال استحقاقها المالي، مستغلة انخفاض التكلفة الحقيقية للديون نظرا لانخفاض أسعار الفائدة في ذلك الوقت، أما الآن فإن الوضع يختلف، فتكلفة الائتمان الجديد مرتفعة بسبب رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، ما يعني انخفاض رغبة الشركات في الحصول على تمويل جديد، وتفضيلها سداد ما عليها من ديون وتأجيل توسعها الرأسمالي في ظل مؤشرات الركود التي تحلق في الأجواء.
إلا أن البروفيسور مريك تومي أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بلفاست، يؤكد أن قضية ديون الشركات أكثر تعقيدا من ذلك، فالنظام الرأسمالي أسهم في تطوير ما يصفه بإدمان الشركات على الديون، وتحديدا في العقود الخمسة الأخيرة، سواء عبر النظام الضريبي أو أسعار الفائدة المنخفضة، وحفز ذلك صناديق التقاعد وشركات التأمين على شراء سندات الشركات بكميات كبيرة، ومن وجهة نظره ساعد ذلك الاقتصادات الرأسمالية الكبرى مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، واليابان على زيادة قدرتها التنافسية عبر ضخ رؤوس أموال ضخمة في الشركات.
وقال لـ"الاقتصادية" إن هذا "الوضع يبدو إيجابيا في لحظات الانتعاش، أما في أوقات الأزمات مثل ما حدث نتيجة وباء كورونا والى حد ما بسبب التداعيات الناجمة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن هشاشة الاقتصاد المبني على الديون تصبح شديدة الخطورة، إذ ربما يدخل الاقتصاد الدولي مرحلة يكون النمو الاقتصادي فيها أضعف مع ديون مرتفعة، وعدم قدرة من الشركات على سداد ما عليها من مستحقات مالية".
لكن عندما يتم الحديث عن ديون الشركات، فإن الأمر من وجهة نظر كثير من الخبراء يبدو شديد العمومية، ويتطلب الأمر الإجابة على عدد من الأسئلة المتعلقة بما هي الشركات التي كانت وراء الإفراط في الديون على مدى العقد الماضي وأثناء الوباء؟ وما الوضع المالي لتلك الشركات بمعنى هل لديها القدرة على سداد ديونها في ظل تراجع النشاط الاقتصادي؟ وهل بالفعل زادت استثمارات تلك الشركات مع زيادة ديونها؟
ومنذ 2000 نما إجمالي الديون طويل الأجل لأكبر 1000 شركة غير مالية من حيث القيمة السوقية بنسبة تقارب 10 في المائة ليقدر إجمالي ديونها بستة تريليونات دولار تقريبا، وارتفعت ديون تلك الشركات بوتيرة أسرع في 2020 وصلت إلى نحو 14.5 في المائة مقارنة بـ2019، ونحو 5 في المائة فقط من هذه الشركات الـ1000 مسؤولة عن 30.7 في المائة من إجمالي الديون طويلة الأجل للمجموعة، وهي نسبة أعلى بكثير مما كان عليه الوضع قبل عشرة أعوام.
من جانبه، أوضح لـ"الاقتصادية" ديفيد إيرك الخبير في التحليل المالي، إن "ثلاث قطاعات وهي تكنولوجيا المعلومات، خدمات الاتصال، والرعاية الصحية قادت نمو الديون منذ 2010 خاصة في أعوام كورونا، وذلك بما يتفق مع الأهمية المتزايدة لهذه القطاعات في النشاط الاقتصادي والتجاري الأوسع، وبلغ متوسط النمو السنوي للديون طويلة الأجل في القطاعين الأول والثاني 20 و13.4 في المائة على التوالي، ليس ذلك فحسب فقد زادت هذه القطاعات بسرعة من ديونها حتى أثناء الوباء، وارتفاع الديون في هذه القطاعات ليس مفاجئا نظرا إلى امتداد تأثيرها إلى قطاعات أخرى، كما يلاحظ أن حصة الصناعات والمرافق في الديون طويلة الأجل انخفضت بما يتماشى مع مساهمتها في الاقتصاد الأوسع".
وحول قدرة الشركات على سداد ما عليها من ديون، فإن الأمر لا يزال محل جدل بين الخبراء، إذ يربط كثير منهم تلك القدرة بعدد من المتغيرات بينها معدل النمو الاقتصادي وأسعار الطاقة، فلا شك أن تراجع النمو الاقتصادي تحت وطأة التضخم أو الركود أو الاثنين معا سيؤدي إلى تقلص قدرة الشركات على سداد ديونها، وسيصبح من الضروري عليها الموازنة بين إعادة استثمار ما تحققه من أرباح في التوسع الرأسمالي وتأجيل سداد أعباء الفوائد البنكية على القروض إلى حين، أو سداد ما عليها من قروض على حساب وقف توسعها الرأسمالي، كما أن الأسعار المرتفعة للطاقة في الوقت الراهن، قد تسهم في تقليص رغبتها في الاقتراض إذا قررت عدم التوسع رأسماليا.
ويظل السؤال الأكثر أهمية هو ما إذا كانت زيادة ديون الشركات منذ 2010 قد قوبلت بزيادة في الاستثمارات أم لا؟ فإذا نمت الاستثمارات بما يتماشى مع الديون فلا شك أنه يمثل اتجاها إيجابيا للاقتصاد، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن المستوى المرتفع من الديون والمقدر بتريليونات الدولارات يصبح أزمة عالمية.
بدورها، تشير إيمي كيند أستاذة محاسبة الشركات في مدرسة لندن للتجارة، إلى أن الإنفاق الرأسمالي لم يواكب الديون في كثير من الأحيان، وأن النفقات الرأسمالية لأكبر 1000 شركة على مستوى العالم لم تواكب ديونها، وأن تلك النفقات نمت بنسبة 6.7 في المائة في المتوسط أي أقل من النمو المقابل في الدين طويل الأجل البالغ 9.7 في المائة.
لكنها تضيف بأن تلك الصورة تتسم بالعمومية في التحليل، وأن هناك اختلافا داخل مجموعات الشركات، فقد زادت أكبر عشر شركات في العالم التي قادت توسع الديون من نفقاتها الرأسمالية أسرع من غيرها، وتلك المجموعة واصلت زيادة النفقات الرأسمالية حتى في ظل جائحة كورونا، وبوتيرة اقتصادية صحيحة وصحية.
وتعد كل من مجموعة إيفرجراند الصينية وتقدر ديونها بـ310 مليارات دولار، فولكس فاجن الألمانية 192 مليار دولار، إيه تي آند تي الأمريكية 176 مليار دولار، ديملر الألمانية لصناعة السيارات 151 مليار دولار، وتويوتا اليابانية 138 مليار دولار، أكثر خمس شركات مديونية في العالم.
وفي الواقع فإن المجموعة الصينية للتطوير العقاري إيفرجراند التي تخلفت عن سداد ديونها في العام الماضي، قد أثارت تساؤلات تجاوزت المجموعة الصينية للبحث في قدرة الشركات الخمس الكبرى على التعامل مع قضية المديونية، أخذا في الحسبان أن معدلات الفائدة في ذلك الوقت كانت منخفضة، وعلى الرغم من أنه لا يوجد حتى موعد إعداد هذا التقرير على ما يشير إلى أن أيا من تلك الشركات يواجه صعوبة في عملية سداد ما عليه من ديون، فربما لا يستمر الوضع كثيرا على
هذا المنوال، إذا واصل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المضي قدما في سياسة رفع أسعار الفائدة وتبعته البنوك المركزية الدولية، إذ ربما سنجد حينها بعض الشركات الكبرى سواء من هؤلاء الخمس أو الأقل منها وزنا ومديونية غير قادرة على السداد، وفي حاجة إلى أن تقدم لها حكومات بلدانها يد المساعدة تفاديا لإعادة تكرار كارثة بنك ليمان براذرز الأمريكي في 2008 التي كانت البداية لأزمة طالت الاقتصاد العالمي كله.
Publishing Date