الدوحة-(الجزيرة)- يُقال إن هناك ست وسائل فقط للحصول على المال والوصول إلى الثروة، ولا يخرج الأمر إطلاقا عن حدود هذه الوسائل الست: أن يعطيك أحد المال هبةً لك لأي سبب، أن ترث هذا المال، أن تفوز به في صالات القمار واليانصيب، أن تسرقه، أن تتزوَّج من هذا المال، أن تقترض هذا المال، وأخيرا: أن تصنع المال.
فلنكن عقلانيين ونحن ننظر سريعا إلى هذه الوسائل. الوسائل الثلاث الأولى، أن يعطيك أحدهم مالا هبةً لك أو أن ترث المال أو تربح اليانصيب، هي أمور لا يمكن عقلنتها، وغالبا ما تخضع لمعايير القَدَر خضوعا كاملا. أما سرقة المال، فإذا نحَّينا الجانب الاخلاقي للأمر، فهي أمر غير مُجدٍ على الإطلاق، ففرص السقوط كبيرة، ناهيك بكونك ستحيا طوال العمر قلقا من لحظة انكشاف فعلتك التي ستؤدي بك إلى السجن.
أما الزواج بالمال -بمعنى الزواج من الأثرياء والثريّات- فقد يبدو جذابا، ولكنه مليء بالمشكلات دون شك، ناهيك بالكثير من التنازلات الشخصية التي قد لا يستطيع الجميع تقديمها. اقتراض المال كذلك قد يوفِّر لك مبلغا كبيرا بسرعة، ولكنه سيُرهق كاهلك لسنوات طويلة في طريق سداده، فضلا عن الشعور الدائم بالحصار الذي لا يمكن الفكاك منه إلا بعد سداد الدين، وإلا لن يختلف الأمر كثيرا عن مصير سارق المال: السجن.
إذن، لم يبقَ أمامنا سوى الوسيلة الوحيدة والأخيرة التي تجذب المال، وهي "صناعته"، هذه الوسيلة التي يتصارع عليها الغالبية العظمى من الناس، ويدرك الجميع أن عددا محدودا للغاية منهم هو الذي يستطيع أن يُكوِّن ثروة حقيقية من وراء هذه الوسيلة، الأمر الذي يستدعي إعادة طرح السؤال المكرر: لماذا يُحقِّق عدد محدود من الناس ثروة كبيرة ويُخفق معظمهم؟ والأهم: كيف يُحقِّقونها؟
دراسة جديدة لمحاولة فهم الأمر
على مدار سنوات طويلة، ومع آلاف الكتب والمقالات أو التحليلات المُفصَّلة التي تُنظِّر حول كيفية تحصيل الأموال والوصول إلى الثراء بجوانبه كافة، ما زال هذا الموضوع محلَّ دراسة مُكثَّفة، ليس فقط من الذين خاضوا تجربة الثراء بالفعل وقرَّروا نقل خبراتهم إلى الآخرين، بل أيضا من الباحثين الأكاديميين المهتمِّين بربط الأرقام والظواهر النفسية والاجتماعية بفرص الثراء والتحرُّر المالي الذي يُحقِّقه بعض الأشخاص دونا عن غيرهم.
توماس كورلي، محاسب ومُخطِّط مالي أميركي، قرَّر إجراء دراسة أكثر عُمقا عن هذا الموضوع، نُشر عنها في عدد من المنصات الغربية أهمها موقع "CNBC" الاقتصادي. بدأ كورلي دراسته التي سمَّاها "دراسة عادات الأثرياء" (Rich Habits Study) عام 2004 وأنهاها عام 2007، ووجّه على إثرها الأسئلة وجمع البيانات من 233 شخصا يمكن وصفهم بالأثرياء، جاؤوا من خلفيات ومشارب وأوضاع اقتصادية مختلفة.
المميز والمختلف في هذه الدراسة ثلاث نقاط: الأولى أنها لم تستهدف المليارديرات أو ذوي الثروات الهائلة بقدر ما كانت تستهدف الأثرياء الذين وصلوا إلى ثروة بعدة ملايين، الأثرياء الذين يمكن وصفهم بالمليونيرات أو "Multi-Millionaires"، ما يجعل الأمور أكثر واقعية بالنسبة للقارئ. والثانية أنها رغم أنها أُجريت في أميركا فإن مبادئها العامة يمكن تعميمها على دول العالم كافة مع اختلاف الأرقام بحسب الأوضاع الاقتصادية.
والثالثة والأهم أن الرجل صنَّف النتائج كلها إلى 4 طرق تشمل المسارات الأساسية للوصول إلى لقب مليونير، بعض هذه الطرق سهل -بحد وصف الدراسة- وبعضها صعب وينطوي على مخاطرة عالية.
الطريق الأول: ملوك الادخار والاستثمار
يمكن القول إننا نتحدَّث هنا عن الطريق التقليدي لحصد الثروة، وهو الطريق الذي وصفه كورلي بأنه الطريق الأسهل ظاهريا كونه لا يتطلَّب مهارات استثنائية بقدر ما يتطلَّب الانغماس الكامل في إستراتيجية النَّفَس الطويل فيما يخص التعاملات المالية. بحسب دراسة كورلي، فإن نحو 22% من شريحة الأثرياء في دراسته استطاعوا الوصول إلى ثرواتهم المليونية من خلال السير في هذا الطريق.
بحسب الدراسة، طريق "الادخار والاستثمار" أتاح للبعض الوصول إلى المليون الأول في نهاية الثلاثينيات، وتحقيق عدة ملايين بقدوم منتصف الخمسينيات، بينما استغرق البعض الآخر أكثر من 30 سنة للالتحاق بنادي المليونيرات. هذا الطريق محكوم بنمط حياة متكامل يمكن وصفه بالتوازن الدقيق في نواحي الادخار والإنفاق والاستثمار المالي.
لا يربط كورلي في دراسته بين هذا الطريق وبين وظائف معينة لأصحابه، لكنه أشار إلى أن الأفضلية دائما في هذا النموذج من نصيب الأشخاص الذين بدؤوا مسيرتهم الوظيفية مبكرا، وكانت وظائفهم تندرج تحت ما يمكن وصفه بـ "وظائف الطبقة الوسطى" مع مراعاة الاختلافات بين الدول والأجور حول العالم.
يمكن القول إن طريق الادخار والاستثمار يشترك السائرون فيه في خصائص ثابتة، أولها أنّهم يُفضِّلون التنازل عن الكثير من الأمور الترفيهية في حياتهم مقابل السعي لادخار الأموال، وأن الادخار دائما خيار مُقدَّم على الإنفاق. تقول الدراسة إنهم يدّخرون ما لا يقل عن 20% من دخولهم بثبات مهما كانت الظروف، ثم يبدؤون في استثمار مدخراتهم مبكرا في أنظمة استثمارية قليلة المخاطر، مثل الاستثمارات البنكية والأوعية الادخارية والتأمينية وخطط التقاعد طويلة المدى.
ولكن رغم أن هذا الطريق يبدو سهلا ونمطيا ومُمهَّدا، فإنه لا يناسب الجميع لأنه أيضا طويل وبطيء ويحتاج إلى التزام ثابت وطويل المدى بخصوص التعاملات المالية، ونمط حياة ثابت لا يمكن كسره معظم الوقت.
الطريق الثاني: المُتسلِّقون
في قصة نجيب محفوظ القصيرة والشهيرة "حضرة المحترم"، يضرب لنا عثمان بيومي -بطل الرواية- نموذجا قريبا للمقصود هنا بمسيرة السعي للثروة من خلال التدرُّج الوظيفي. في الرواية، يبدأ نضال الشاب حديث السن أسود الشعر في مسيرته الوظيفية موظفا حكوميا في درجة شديدة التواضع، ليقطع مسيرة طويلة وشاقة من التدرُّجات الوظيفية في شركته، حتى يصل إلى أعلى منصب فيها وهو المدير العام، وقد اكتسى شعره باللون الأبيض. في هذه المسيرة تتحسَّن أوضاع الموظف البسيط ويُحقِّق نمطا من الثروة في النهاية.
هذا الطريق وصفه توم كورلي باسم "طريق مُتسلِّقي الشركات" (The Company Climbers Path)، هؤلاء الأشخاص الذين يبدؤون مسيرة وظيفية واعدة، ويُكرِّسون كل طاقاتهم بهدف الترقي الوظيفي في سلم الشركة للوصول إلى أعلى مراتبها التنفيذية التي عادة ما تضمن لهم عائدا ماليا مرتفعا، وضمانات اجتماعية متميزة.
خلص كورلي في المسح الذي أجراه إلى أن 31% من المليونيرات الذين حصرهم الاستطلاع ينتمون إلى هذه الفئة، حيث استغرقوا نحو 22 عاما للوصول إلى ثروة مليونية من وراء هذا الطريق، وكان السبب الأساسي لتراكم الثروة لديهم هو حصولهم على تعويضات وشراكات ومكافآت كبيرة من شركاتهم التي وصلوا إلى أعلى المناصب الوظيفية بها.
هذا الطريق لا يحتاج فقط إلى التميُّز الوظيفي أو الإبداعي والعمل المستمر لساعات طويلة والتضحية بجوانب ترفيهية كبيرة، بل يحتاج المُتسلِّق أيضا إلى تنمية مهارات بناء علاقات واسعة (Networking)، باعتبار أنّ العلاقات هي واحدة من أكثر الوسائل التي تُتيح لهم ترقي السلم الوظيفي.
بالطبع يظل الشرط الحاكم لنجاح السائرين في هذا الطريق هو انضمامهم لمؤسسات منتعشة ماليا بالأساس، بشكل يعود عليهم بالنمو المالي في درجات تطوُّرهم الوظيفي كافة.
الطريق الثالث: أهل الصنعة
يُطلَق على هؤلاء في الأدبيات الغربية مصطلح "فيرتوزو" (Virtuoso)، وهو مصطلح شبيه بالتسميات العربية الدارجة لوصف الشخص المُتمكِّن في مجاله ذي الخبرة والمهارة العالية الإبداعية بأنه "معلِّم". نحن هنا نتحدَّث عن طريق المعلِّمين الذين وصلوا إلى قدر كبير من الخبرة والمهارة والفعالية في مجالاتهم، مما انعكس على تكوين ثرواتهم انعكاسا كبيرا في مراحل حياتهم، مهما كان المجال الذين يبرعون فيه.
أفضل تعبير عن هذا الطريق جسَّده ذلك المشهد في فيلم "مكالمة هامشية" (Margin Call)، عندما استُدعي أحد كبار الخبراء التنفيذيين للشركة لإنقاذها من خطر وشيك، فيُوجِّه هذا الخبير سؤالا لأحد الموظفين الصغار، قائلا: هل أنت مهتم لكي تعرف لماذا أجني هذا القدر الهائل من الأموال؟ وعندما أجابه الموظف الصغير بنعم، قال له الخبير التنفيذي المحترف: أنا أجني كل هذه الأموال مقابل شيء واحد، شيء واحد فقط، أن لديّ القدرة على تخمين مسار هذه الشركة بدقة خلال أسبوع وشهر وعام من الآن.
بحسب كورلي، فنحو 19% من المليونيرات الذين شملهم الاستطلاع استطاعوا الوصول إلى ثروتهم المليونية من خلال هذا الطريق، الطريق الذي سمّاه "طريق الخبراء" (The Virtuosos Path)، هؤلاء الأشخاص الذين يُدفع لهم أموال طائلة نظير معرفتهم وخبراتهم في مجال معين، ويملكون العلم والخبرة اللازمة التي تجعل آراءهم تُمثِّل تصوُّرات وحلولا فعّالة لأشخاص وشركات ومجموعات.
هذا الطريق لا يمكن وصفه بالسهل قطعا، بل قد يستغرق من أصحابه أكثر من 20 عاما للوصول إلى ثروات مليونية بحسب الدراسة. الدراسة ذكرت أمثلة لهؤلاء الخبراء شملت أساتذة الجامعة الأكاديميين، والخبراء في القطاعات الطبية والقطاعات القانونية، وأيضا الخبراء في مجالات الأعمال والعلاقات العامة أو المرشدين (Mentors) في عالم الأعمال. هذه النماذج استغرق أصحابها سنوات طويلة من التعلُّم الأكاديمي أو الذاتي وتحصيل الخبرة بدون شرط أن يكون لديهم ذكاء طبيعي أو تميز استثنائي في بداية حياتهم.
هذا الطريق، مع كونه واحدا من أكثر الطرق جذبا للثروة بالنسبة لأصحابها، من أكثر الطرق إرهاقا أيضا، حيث يتطلَّب استثمارا كبيرا من المال والوقت من أصحابه في مجالاتهم، مما يؤدي إلى تحقيق استفادة تدريجية خلال مراحل زمنية طويلة قد تصل إلى 20 عاما.
الطريق الرابع: طريق الأحلام
وصفه كورلي أيضا بأنه "الطريق الأصعب" و"الطريق الأسرع" في الوقت نفسه. الطريق الأصعب لصناعة الثروة باعتبار أنه يحتاج إلى قدر استثنائي من الإصرار لا يُقارَن بكل ما سبق من الطرق، والطريق الأسرع لأن نتائجه في تكوين الثروة تكون أسرع من الطرق الأخرى. الطريق الذي وصفه أحد الذين أجرى عليهم الدراسة بأنه يشبه المشي كل يوم صباحا عبر الجحيم.
تقول الدراسة إن 28% من الأشخاص الذين أُجري عليهم الاستطلاع صُنِّفوا في هذه المجموعة، بمتوسط ثروة قيمتها 7.4 ملايين دولار، وهو ما يزيد كثيرا على متوسط الثروة المليونية التي وصلت إليها المجموعات الأخرى. وتقول أيضا إن هذه العيّنة استطاعت الوصول إلى تحقيق الملايين خلال فترة تُقدَّر بـ 12 عاما في المتوسط، وهي أيضا فترة أقل بكثير من المجموعات الأخرى التي تستغرق على الأقل 20 عاما للوصول إلى الثروة.
الدراسة أوضحت عدة نماذج لمرتادي هذا الطريق وعدَّدت أمثلة له، ما بين رائد أعمال قرَّر إطلاق شركته الناشئة، مرورا بكاتب يقضي سنوات في حياكة أحداث روايته الإبداعية، وليس انتهاء بفنان موسيقي يُبدع ألوانا مختلفة من الموسيقى، أو لاعب كرة يقضي يومه كاملا في التدريب، أو ممثل محترف يبدأ وينتهي يومه بالتدريبات التمثيلية أمام الكاميرا. بمعنى آخر، كل ما هو خارج النمط التقليدي المعتاد للأعمال ذات الطابع المؤسسي أو الأكاديمي أو التعليمي الذي يتطلَّب إنجازه الكثير من الالتزام بالعمل والتطوير الذاتي.
الدراسة الخاصة بكورلي ذكرت أيضا أن متوسط ساعات العمل لدى الأشخاص الذين صنَّفتهم بأنهم في معسكر طريق الحالمين يُقدَّر بنحو 61 ساعة أسبوعيا، خصوصا في السنوات المبكرة لبداية رحلتهم الريادية. كما أوضحت أن 27% من الاشخاص الذين وصلوا للثروة المليونية من وراء هذا الطريق فشلوا على الأقل مرة واحدة في طريقهم حتى استطاعوا الوصول إلى تحقيق نتائج جيدة. لاحقا، ذكر معظم السائرين في هذا الطريق أنهم لجؤوا إلى مسار "الادخار والاستثمار" التقليدي لزيادة أرباحهم التي حقَّقوها من مسيرتهم الإبداعية.
في النهاية، يمكن القول إن النقطة المشتركة التي تتفق عليها هذه الدراسة مع مؤلفات أخرى على مر السنين هي أن تحصيل الثروة مثله مثل أي شيء آخر خاضع للاختلافات الشخصية ومستويات تحمُّل الأفراد وطريقة التفكير ومثابرة كل شخص في مسعاه إليها، وأن الطريق الذي قرَّرت أن تسلكه بعد قراءة هذا التقرير قد لا يكون مناسبا لقارئ آخر يقرأ السطور نفسها في اللحظة نفسها.