رام الله-أخبار المال والأعمال- تواجه التنمية في فلسطين تحديات كبيرة بسبب الظروف السياسية والاقتصادية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية، بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي التي تشمل مصادرة الأراضي والسيطرة على الموارد المختلفة، والتحكم بمفاصل الاقتصاد الفلسطيني والحصار المشدد على قطاع غزة منذ أكثر من 15 عاماً.
يعتبر نقص التمويل الموجه للتنمية، وبشكل خاص التمويل الصغير للفئات والمناطق الفقيرة المهمشة من أبرز التحديات التي تواجه تعزيز التنمية الشاملة والمستدامة في فلسطين. فعلى الرغم من النمو المطّرد في قطاع التمويل الصغير خلال العقد الأخير، إلا أن التقديرات تشير إلى أنه لا يزال هنالك شريحة واسعة من السكان في فلسطين غير قادرة على الوصول إلى الخدمات المالية التجارية وما زالت احتياجاتها غير مغطاة من قبل مؤسسات التمويل الصغير، فهناك ما بين 330 ألف و430 ألف مقترض محتمل في السوق، كما قدرت الفجوة المالية المحتملة في السوق ما بين 630-900 مليون دولار (مؤسسة التمويل الدولية، 2017).
من جهة أخرى، تعمل مؤسسات التمويل الصغير في قطاع بالغ الأهمية خاصة من حيث الفئات والمشاريع المستهدفة والتي أنشئت لخدمتها والتي تتركز في الفقراء والمهمشين وذوي الدخل المنخفض، والمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر. حيث أن محاربة الفقر وتمكين المهمشين محور أساس في تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة.
أدت هذه اللوائح والقوانين إلى العديد من التغييرات على القطاع، أبرزها انخفاض عدد المؤسسات التي تقدم خدمات التمويل الصغير، خاصة بعد فرض وزارة الاقتصاد حداً أدنى لرأس المال بقيمة 5 ملايين دولار لشركات التمويل الصغير الربحية، وحد أدنى 5 ملايين دولار كمتطلبات حقوق ملكية في حال شركات التمويل الصغير غير الربحية. فعلى سبيل المثال، نتيجة لهذا القرار خرجت من سوق التمويل الصغير كل من جمعية الشبان المسيحية وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية. في المقابل، شجعت اللوائح والقوانين عدداً آخر من المؤسسات على إنشاء برامج للإقراض الصغير والدخول الى هذا القطاع الواعد، حيث تأسست في العام 2013 على سبيل المثال شركة «الإبداع» للتمويل متناهي الصغر (بوساطة برنامج الخليج العربي للتنمية- أجفند) والتي سرعان ما أصبحت من اللاعبين الأساسيين في هذا القطاع. تضاعف عدد العملاء من 37 ألفا عام 2011 إلى 87 ألفاً عام 2016 (ICF, 2017).
في بداية العام 2021 أصدرت الحكومة قراراً بقانون رقم (5) للعام 2021 لإنشاء بنك تنمية حكومي باسم «بنك الاستقلال للتنمية والاستثمار» برأس مال حكومي، من أجل المساهمة في تعزيز التنمية ومحاربة الفقر خاصة بعد التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا، والفجوة الكبيرة في التمويل التنموي في فلسطين.
التحدي الأساسي
رغم تطور مؤسسات التمويل الصغير الفلسطينية وتوسع عملها وارتفاع حجم الطلب في سوقها، إلا أنها ما زالت تواجه تحديات متنوعة في سياق اعتماد نظام السوق الحر كمنهج للحياة الاقتصادية الفلسطينية، بالإضافة للاحتلال الإسرائيلي وسياساته التي تعيق بشكل كبير جهود التنمية الشاملة في فلسطين خاصة لدى الفئات والمجتمعات المهمشة والفقيرة، أبرزها:
- عدم وجود منظومة متكاملة للتمويل الصغير في فلسطين تجمع كافة الأطراف ذات العلاقة بالتنمية وتنسق الجهود فيما بينها من أجل تعزيز التنمية.
- غياب الرؤية التمويلية التنموية الشاملة المناسبة للحالة الفلسطينية، التي من شأنها توجيه مؤسسات التمويل الإنمائي؛
- عدم وجود صناديق ضمانات للقروض.
المنافسة غير المنصفة بين مؤسسات التمويل الصغير.
فيما يخص دور بنك الاستقلال في التمويل الإنمائي، فإضافة إلى هذه التحديات، جاء قرار الحكومة بتأسيس بنك الاستقلال للاستثمار والتنمية، ليكون الذراع الحكومي في تمويل التنمية. هذا بكل تأكيد يؤثر على الدور التنموي الذي من الممكن أن تلعبه مؤسسات التمويل الصغير، وعلى جهود تحفيز التنمية ومحاربة الفقر وتقليل مستويات التهميش. بينما تؤكد الدراسات على أهمية مثل هذه المصارف العامة في تعزيز التنمية، ولكن ذلك يتطلب تحقيق عدد من الشروط أبرزها التفويض الواضح لضمان إمكانية التقييم وتحقيق الأهداف.
إن دخول بنك الاستقلال إلى ساحة التمويل الإنمائي بكل تأكيد يؤثر على الدور التنموي الذي من الممكن أن تلعبه مؤسسات التمويل الصغير، وعلى جهود تحفيز التنمية ومحاربة الفقر وتقليل مستويات التهميش، ولكن ذلك يتطلب اتخاذ الإجراءات والسياسات المناسبة لتنظيم العلاقة وتجنب المنافسة ما بين بنك الاستقلال ومؤسسات التمويل الصغيرة.
السياسات والتدخلات المطلوبة
هناك فرصة كبيرة لنمو قطاع التمويل الصغير وإزالة التحديات التي تواجهه من أجل لعبه لدور أكبر في مجال تعزيز التنمية الشاملة والمستدامة في فلسطين، ولكن ذلك يتطلب اتخاذ الإجراءات والسياسات المناسبة من مختلف الجهات ذات العلاقة، بما فيها بنك الاستقلال عند إقامته.
على صعيد سلطة النقد:
- دراسة إمكانية السماح لمؤسسات التمويل الصغير بقبول الودائع وخاصة ودائع الشرائح التي تستهدفها في برامجها. ويمكن أن تدرس التجارب العالمية والاستفادة منها.
- اعتماد التفريع والشمول المالي كجزء من مؤشرات التقييم والرقابة ضمن إطار سياسات التمويل الصغير.
- تأمين خطوط تمويل مؤقتة لمؤسسات التمويل الصغير لمواجهة الطوارئ الناجمة عن السياسات الإسرائيلية المعادية للاقتصاد الفلسطيني، وذلك لتحصين المؤسسات من جهة ولتستطيع تقديم المساندة المالية أو إعادة الجدولة للمشاريع الصغيرة المتضررة من هذه الإجراءات.
- إنشاء آلية (بإشراف سلطة النقد) لتنسيق الخطط الإستراتيجية لمؤسسات التمويل الصغير (خطط لـ 3 سنوات) بحيث تؤدي الآلية إلى وضع أولويات وتوجهات عامة ملزمة للمؤسسات. وأن يتم إشراك مؤسسات التمويل التنموي الأخرى في هذه الآلية.
على صعيد مؤسسات التمويل الصغير:
- اعتماد مفهوم تنموي شامل من قبل مؤسسات التمويل الصغير يناسب الحالة الفلسطينية وخاصة الجوانب المتعلقة بمحاربة الفقر والتصدي للإجراءات الاحتلالية، ضمن إطار عام واستراتيجية موحدة للتنمية ومحاربة الفقر تقوده المؤسسات الحكومية المختصة وبتنسيق مع مختلف الفاعلين في هذا المجال من مؤسسات القطاع الخاص والقطاع الأهلي والمؤسسات الدولية.
- تشجيع أو إلزام العملاء على تلقي تدريب مالي وفني وتسويقي قبل تقديم أي قروض لأي فئة من المشاريع الصغيرة.
- إجراء تقييم لعمل مؤسسات تمويل التنمية (المتوسطة والكبيرة - المحلية والدولية) العاملة في الاقتصاد الفلسطيني، (التي تمول مشاريعها حسب أولوياتها ولا تقوم بالإقراض) للاستفادة من تجاربها الناجحة وتطوير هذا القطاع بما يخدم الأهداف التنموية العامة وتقاسم الأدوار التمويلية مع مختلف المؤسسات المصرفية وغير المصرفية.
- الابتعاد عن القروض الاستهلاكية (أو التي تصب بالاستهلاك وليس بالإنتاج) من خلال تشديد شروطها، وذلك لقلة تأثيرها على التنمية ولارتفاع مخاطر التعثر فيها.
الحكومة:
- توحيد القوانين الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة الخاصة بالاقتصاد وقطاع التمويل الإنمائي. يتطلب ذلك بداية إحياء السلطة التشريعية ومن ثم إصلاح القضاء الفلسطيني بما يحفظ استقلاليته، ويكون توحيد القوانين المالية والمتعلقة بمؤسسات التمويل الصغير جزءا من هذا الواجب الوطني.
- إنشاء صناديق أو برامج ضمان للتمويل الذي تقدمه مؤسسات التمويل الصغير. يمكن أن يكون ذلك من خلال سلطة النقد أو الحكومة أو كليهما وبالتعاون مع القطاع الخاص تحت عناوين المسؤولية المجتمعية لتحقيق أهداف التنمية الوطنية الشاملة.
- تطوير قانون المصارف بحيث يأخذ بالاعتبار خصوصية مؤسسات التمويل الصغير ودور المصارف العامة المستقبلي.
- تطوير وتفعيل التكاملية في منظومة التمويل الصغير والتي تشمل مؤسسات التمويل الصغير وسلطة النقد والقضاء وجهاز التنفيذ ومؤسسات التوعية والتثقيف وصناديق الضمان ومؤسسات التأمين.
على صعيد بنك الاستقلال:
- العمل على تحقيق الشروط اللازمة لنجاح التجربة والمستوحاة من تجارب الدول الأخرى، بما يشمل تطوير البيئة القانونية للبنك بحيث يتم تحصينه قدر الإمكان من الواقع الاقتصادي والسياسي اللا مستقر في الأراضي الفلسطينية.
- تحديد التفويض (المهمة) القطاعي الاقتصادي والمجتمعي بشكل واضح بالإجابة على الأسئلة المختلفة المتعلقة بدوره وطبيعة عمله.
- أحد الخيارات أمام تصميم دور البنك هو عدم دخوله في مجال تقديم الخدمات التمويلية، وأن يكتفي بالإشراف والرقابة وربما ضمان التمويل والتوجيه السياساتي الإنمائي.
- من جانب آخر يمكن أن تكون أولويات البنك في المشاريع التنموية الكبيرة والتي يحجم عن تنفيذها القطاع الخاص أو أنه لا يقوى عليها وحده. يمكن الحديث هنا عن شراكات بين البنك والقطاع الخاص والقطاع الأهلي في بعض المجالات.
- أن يكون البنك بنكا وضامناً للمؤسسات التنموية المختلفة بما فيها مؤسسات التمويل الصغير.
- أن تدرس كهدف استراتيجي إمكانية إدماج مؤسسات التمويل التنموي مع البنك، بحيث تتم الفائدة من وفورات الحجم الكبير والخبرة والانتشار اللذين تتمتع بهما المؤسسات المالية التنموية، ويسمح بالتخصص القطاعي والإقراضي بدل المنافسة والتضارب في الأدوار.
- التأكيد في قرارات تأسيس البنك على أهمية استقلالية مجلس الإدارة، وألا تكون للحكومة أغلبية حاكمة فيه لتجنب التدخلات السياسية ولتجنيبه الاختلال الإداري والمالي الذي يجتاح القطاع الحكومي.
- في جميع الأحوال، أن يتم اتباع البنك من حيث الإشراف والرقابة والتنظيم إلى سلطة النقد الفلسطينية، ضمن أنظمة تراعي خصوصية البنك.
*يُصدر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) بشكل دوري مجموعة من الدراسات التطبيقية والعلمية المفصلة، بالإضافة إلى مجموعة من الأوراق المختصرة ضمن سلسلة سنوية لجلسات الطاولة المستديرة، تتناول موضوعات حيوية ذات أبعاد اقتصادية تهم الجمهور وصناع القرار. لتعميم وتعظيم الاستفادة من هذه السلسلة ينشر هذا الملخص السياساتي لأبرز توصيات هذه الأنشطة العلمية الحوارية.