بيروت/لندن (رويترز) -أقر لبنان الذي يرزح تحت دين ثقيل موازنة تعتبر ”خطوة أولى“ صوب إصلاح ماليته العامة لكن مازال أمامه جهد كبير لإبعاد البلاد عن السقوط في براثن الأزمة.
ويترقب المستثمرون لمعرفة ما إذا كانت دول الخليج العربية ستلقي بحبل نجاة قد يتيح للبنان فرصة لالتقاط الأنفاس.
ويعاني لبنان من واحد من أسوأ الديون العامة في العالم بعد سنوات منيت فيها موازنته بعجز كبير لأسباب ترجع إلى الإهدار والفساد وسياسة التوازنات الطائفية.
وتحاول الحكومة الآن وضع المالية العامة على أرض أصلب أكثر قدرة على الاستمرار بموازنة ترمي لخفض العجز وبخطة لإصلاح قطاع الكهرباء الذي تديره الدولة ويستنزف المال في الوقت الذي يعاني فيه اللبنانيون من انقطاعات يومية في الكهرباء.
وبعد سنوات من التدهور تزايد حافز الإصلاح بسبب ركود اقتصادي وتوقف فعلي في تدفق الدولارات على البنوك اللبنانية من الخارج. ويعتمد لبنان على تحويلات اللبنانيين في الخارج في تمويل العجز في حساب المعاملات الجارية وميزانية الدولة.
وتأمل الحكومة أن تسهم موازنة الدولة التي أقرها مجلس النواب الأسبوع الماضي في دعم الثقة من خلال خفض العجز. وقد رحبت مجموعة دعم دولية للبنان تضم الدول المانحة بالموازنة ووصفتها بأنها ”خطوة أولى ثمة حاجة ملحة لها“ وحثت على مزيد من الإصلاحات.
غير أن كثيرين يتشككون في قدرة الحكومة على الوفاء بأهدافها. ويقول صندوق النقد الدولي إن من المرجح أن يتجاوز العجز في العام الحالي بكثير المستوى المستهدف البالغ 7.6 في المئة من الناتج القومي كما أن المانحين مازالوا ينتظرون لمعرفة البنود المهمة التي سيجري تنفيذها في خطة الكهرباء.
وتشهد الاحتياطيات الخارجية انخفاضا رغم أنها تظل كبيرة بالنسبة إلى حجم الاقتصاد. ودفع ذلك البنوك إلى بدء مسعى جديد لجذب الدولارات بعرض فائدة تبلغ 14 بالمئة سنويا للمودعين المستعدين لربط ودائعهم لمدة ثلاث سنوات.
وهذه الودائع أموال تودعها البنوك بدورها لدى مصرف لبنان المركزي مقابل عوائد أعلى.
وتنعكس المخاطر اللبنانية على كلفة إعادة التأمين على الدين التي ارتفعت مرة أخرى إلى أعلى مستوياتها لأي حكومة في العام بعد أن تراجعت لفترة قصيرة في أعقاب موافقة مجلس النواب على الموازنة يوم الجمعة الأمر الذي يشير إلى ارتفاع مخاطر العجز عن السداد.
وقال ياكوف أرنوبولين مدير المحافظ الأول لدى شركة بيمكو، إحدى أكبر الشركات العالمية في إدارة الأصول، ”نعتقد أن من المستبعد أن يتبدد فتور المستثمرين تجاه لبنان قريبا“.
وأضاف ”رغم أن إقرار الميزانية الذي حدث بعد تأجيل كبير هو خطوة في الاتجاه الصحيح فمازال يتعين بذل الكثير قبل أن تصبح البلاد في مسار مستدام. فقد أفزع هروب الودائع المستثمرين الأجانب“.
وقد شهدت الودائع المصرفية، التي ظلت تنمو على أساس سنوي منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، تراجعا بنسبة 1.7 بالمئة تقريبا في الأشهر الخمسة الأولى من 2019.
ويقول الاقتصاديون إن مثل هذه التدفقات إلى الخارج تحدث في العادة في أوقات الصدمات الكبرى مثل واقعة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 2005.
”خطوات صغيرة في أزمة كبيرة“
تضمنت الموازنة بعض التدابير الصعبة على الصعيد السياسي مثل تجميد التعيينات في الدولة لمدة ثلاث سنوات.
وكان النسف مصير أفكار أكثر صعوبة مثل خفض أجور العاملين بالقطاع العام ويقول معارضون إن الحكومة تحاشت أيضا المشكلة الرئيسية المتمثلة في الفساد.
ومن التدابير الرئيسية التي جرت الموافقة عليها لخفض العجز زيادة الضريبة على الفوائد المدفوعة على الودائع المصرفية والسندات الحكومية ورسم استيراد جديد وخطة لخفض خدمة الدين رغم أنه لم يتضح كيف سيتحقق ذلك.
وقال سامي الجميل رئيس حزب الكتائب المسيحي، وهو من الأحزاب القليلة غير الممثلة في حكومة الوحدة برئاسة سعد الحريري رئيس الوزراء، ”هي خطوات صغيرة في أزمة كبيرة. فنحن في وضع في غاية الصعوبة يحتاج لخطوات جذرية، وإجراءات جذرية. ولم يتخذ أي منها“.
وقال غسان حاصباني نائب رئيس الوزراء لرويترز إن الموازنة خطوة جيدة لكنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب.
وأضاف ”أتوقع أن يتزايد الإحساس بإلحاح الوضع في الشهور القليلة المقبلة وأن يفضي إلى سلسلة من الأنشطة الإصلاحية الكبرى“. وسيظهر أثر هذه الإصلاحات في موازنة 2020.
ويأمل الحريري أن تفتح هذه الإصلاحات الباب أمام تدفق حوالي 11 مليار دولار جرى التعهد بها في مؤتمر استضافته باريس العام الماضي من أجل تمويل الاستثمار.
وقال دبلوماسي غربي ”نحن نعتقد أن هذه الموازنة بداية معقولة. وسيظهر العجز انكماشا. وهم بحاجة لمواصلة تنفيذ الإصلاحات وكذلك موازنة 2020“.
وقالت بعثة من صندوق النقد الدولي في الآونة الأخيرة إن هذه ”لحظة مهمة للبنان“ وإن الموازنة وخطة إصلاح قطاع الكهرباء ”خطوات أولى تلقى الترحيب على طريق طويل“.
وأشارت البعثة إلى أن تدفق الودائع توقف فعليا وأن احتياطيات البنك المركزي الخارجية انخفضت حوالي ستة مليارات دولار منذ أوائل 2018 رغم استمرار عمليات البنك لدعمها.
”داعمون بموارد كبيرة“
يأمل المستثمرون الآن أن تعرض دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية دعما ماليا بعد أن التقى وفد من رؤساء وزراء سابقين للبنان مع الملك سلمان.
وقال أحد رؤساء الوزراء السابقين وهو نجيب ميقاتي إن الرياض ستمد يد الدعم. وقال السفير السعودي لدى لبنان إن الزيارة أذنت بمستقبل مبشر للعلاقات التي توترت مع تنامي نفوذ جماعة حزب الله الشيعية التي تدعمها إيران.
ولم توضح السعودية حتى الآن ما تنوي عمله.
أما قطر فقد أشارت إلى استعدادها لتقديم المساعدة وقالت الشهر الماضي إنها اشترت سندات لبنانية في إطار خطة لاستثمار 500 مليون دولار في دعم لبنان.
وقال فاروق سوسة الخبير في اقتصاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى جولدمان ساكس إن الوضع المتدهور للسيولة في النقد الأجنبي بلبنان هو ”الشدة الحقيقية في الأجل القريب“.
وأضاف ”التحدي الحقيقي هو تنشيط تدفقات رأس المال سواء من المودعين أو من المستثمرين“. وتابع أن الدعم الخليجي ”سيعزز ثقة المستثمرين بإرسال إشارة قوية أن لبنان يمكنه الاعتماد على داعمين لديهم موارد كبيرة“.
وقالت سارة جروت خبيرة استراتيجيات الأسواق الناشئة لدى بنك جولدمان ساكس إن البنك مازال يميل للتشاؤم فيما يتعلق بلبنان.
”علامات الخطر“
بخلاف الأزمة المالية تتركز الأنظار أيضا على دور البنك المركزي.
فقد قالت بعثة صندوق النقد إن البنك المركزي حافظ ببراعة على الاستقرار المالي في ظروف صعبة لسنوات غير أن التحديات تزايدت.
ودعت البعثة إلى التحرك لزيادة مرونة القطاع المالي من خلال تقوية ميزانية البنك المركزي وزيادة الاحتياطيات المالية للبنوك. وقالت إن على البنك المركزي أن يعمل على التخلص تدريجيا من عملياته المالية والامتناع عن شراء السندات الحكومية.
وقال الاقتصادي توفيق كسبار الذي عمل مستشارا لصندوق النقد الدولي ووزير المالية اللبناني إن لبنان في أسوأ أوضاعه المالية على الإطلاق.
وهو يقول إن النقاش في المسائل المالية صرف الأنظار عن عمليات ”الهندسة المالية“ التي ينفذها البنك المركزي والتي وصفها بأنها ”أهم مبعث خطر“.
وقال ”البنك المركزي يشتري الدولارات بسبب انخفاض الاحتياطيات. ومع ذلك فهذه ليست المشكلة في حد ذاتها. المشكلة هي أنه كان على مدى سنوات عديدة يدفع أسعار فائدة في غاية السخاء للبنوك.. وهذه علامات الخطر“.
وكتب كسبار ورقة في 2017 قال فيها إن هذه السياسة تؤدي إلى ”خسائر متزايدة“ للبنك المركزي الذي لم ينشر حساب الربح والخسارة منذ العام 2002.
وقال البنك المركزي في ذلك الوقت إن سياساته فيما يتعلق بأسعار الفائدة تتفق مع مخاطر لبنان.
وأضاف أنه مطالب أيضا سنويا بإصدار قوائمه المالية وحساب الربح والخسارة لوزير المالية وإنه ”مستمر في توليد أرباح مستدامة وكبيرة“.