رام الله-(الأيام)-قبل نحو عام، افتتح عيسى حمايل وزوجته مشروعهما الخاص في البيرة: مصنع صغير لإنتاج معاجين ومنكهات طعام من الأعشاب الطبية، تصنف ضمن التوابل. خلال سنة وصل إنتاجه إلى معظم أسواق الضفة، عبر ثمانين منفذ بيع منتشرة في مختلف المدن. فجأة، مع انتشار فيروس كورونا، توقف عيسى عن الإنتاج تماماً، وطلب من عاملاته الثماني الجلوس في بيوتهن إلى "حين ميسرة".
في غزة، لدى عصام أبو طويلة شركة "أكاسيا للتجارة العامة"، وهي مختصة بتوزيع الأشتال والبذور على المزارعين. كانت تحضّر لموسم مبشّر وطلبت كميات كبيرة من الأشتال والبذور من المورّدين، لكن مع تقييد الحركة ضمن إجراءات الحد من تفشي "كورونا" وصلت البذور والأشتال بعد فوات الموسم وكان مصير معظمها التلف.
هذان نموذجان لما آل إليه حال الغالبية العظمى من المنشآت الاقتصادية والمصالح التجارية الصغيرة، والتي تشكّل نحو 90% من الاقتصاد الفلسطيني، في ظل جائحة "كورونا"، وما خلّفته من تداعيات، كانت فوق قدرة كثير من هذه المنشآت والمصالح على التحمل، وعلى الأرجح، ستقود إلى خروج المئات وربما الآلاف منها من السوق.
"داهمتنا أزمة كورونا بينما كان لدينا مخزون ليس قليلاً من الإنتاج، إضافة إلى كمية من المواد الخام، أعشاب ومواد أخرى. الإنتاج المصنّع يفقد من مدة صلاحيته يوماً بعد يوم، والمواد الخام تتلف تباعاً"، قال حمايل.
إضافة إلى رواتب العاملات الثماني، على حمايل توفير نحو 1500 دولار شهرياً أجرة مبنى المصنع، وفواتير الكهرباء حيث لا يستطيع إطفاء الثلاجات في محاولة لإنقاذ الإنتاج المخزّن وما أمكن من المواد الخام، إضافة إلى القسط الشهري لقرض مشترك حصل عليه مع زوجته من أحد البنوك".
وأضاف: "البنك رفض تأجيل أقساط القرض لأربعة أشهر تنفيذاً لتعليمات سلطة النقد. خصم القسط عن شهر آذار، والآن كشف حسابنا بقيمة قسط شهر نيسان قبل استحقاقه. تقدمنا بشكوى للبنك وكان الرد: المشكلة تطال عدداً كبيراً من المنشآت المماثلة ونحن (البنك) نبحث عن حل للجميع".
السيولة هي المشكلة الأبرز التي تواجهها منشأة حمايل، إذ توقف القطاع الأهم الذي يعتمد عليه في التسويق، وهو قطاع المطاعم، كما أن الطلب في المحلات التجارية تراجع على هذا النوع من المنتجات لصالح السلع الغذائية الأساسية.
وتابع حمايل: "حتى المستحقات القديمة، ما قبل الأزمة، على محلات السوبرماركت لم نتمكن من تحصيلها، وعلينا ديون للمورّدين لا نستطيع أيضاً تسديدها، ولا أتمكن من تسديد رواتب العاملات. طلبت منهن الجلوس في البيت والتزمت بدفع رواتبهن كاملة حال استئناف العمل وتوفّر السيولة".
في غزة، ينتظر أبو طويلة تسلّم كمية من البذور غداً، بعد تأخرها لأسابيع بسبب إجراءات منع التنقل وإغلاق المعابر. جزء منها لم يعد لازماً؛ لفوات الموسم.
وقال أبو طويلة: "في الطلبية بذور بطيخ وشمام كنت طلبتها منذ أسابيع. سأتسلمها غداً، في الوقت باتت فيه الأسواق مليئة بثمار البطيخ والشمام. فات الموسم وسأضطر للاحتفاظ بالبذور للعام المقبل".
الطلبية التي سيتسلمها أبو طويلة غداً، ليست الطلبية الوحدية التي جاءته متأخرة عن موعدها، لفترة كافية لفوات الموسم، والخسارة تكون 100% فيما ينعلق بالأشتال، إذ لا مجال لتخزينها أو الاحتفاظ بها لفترة طويلة.
وقال: "داهمتنا الأزمة وقد كانت لدينا كمية من الأشتال والبذور، فتوقف العمل تماماً، وفي الأيام الأولى تراجع الطلب إلى الصفر تقريباً، وحين نعود إلى العمل جزئياً، فإن المشكلة الأبرز التي تواجهنا صعوبة إدخال الأشتال والبذور بسبب إغلاق المعابر، والطلبيات التي كنا قد طلبناها ودفعنا ثمنها تصل متأخرة كثيراً عن الوقت المناسب لزراعتها".
في "أكاسيا للتجارة العامة"، 18 عاملاً، وبعد تقليص العمل ليقتصر على 5 عمال فقط، اضطر أبو طويلة إلى تشغيل عماله بالتناوب، ليومين في الأسبوع لكل منهم.
قبل القرارات الأخيرة للحكومة بفتح بعض القطاعات للعمل، جزئياً، كان قطاع الملابس واحداً من أكبر القطاعات المتضررة، إذ لم يسمح لمحلات بيع الملابس بالعمل بشكل تام في الشهر الأول من حالة الطوارئ، بعدها سمح لها بالعمل يوم الجمعة فقط، ومؤخراً سمح لها بالعمل ثلاثة أيام في الأسبوع، وحتى مع العودة الجزئية للعمل، فإن مصادفة ذلك لنهاية الشهر حيث لم يتبق للأسر شي من راتب الشهر السابق، وكذلك بدء شهر رمضان حيث تحول الأسر كل ما لديها من سيولة للإنفاق على المواد الغذائية، "كل هذا أدخل قطاع بيع الملابس بالتجزئة إلى كارثة"، قال محمد اللفتاوي، صاحب مجموعة من محلات بيع الملابس في رام الله.
لدى اللفتاوي نفقات جارية، أجور 13 عاملاً وأجرة محلات وفواتير خدمات، تمكن من الوفاء بها كاملة في الشهر الأول (شهر آذار)، وأيضاً أعاد ترتيب أموره المالية لتجنب الدخول في أزمة في الشهر الثاني (شهر نيسان)، "بهذه الترتيبات أستطيع التحمل لشهرين أو ثلاثة، لكن كثيرين لن يستطيعوا التحمل، وبات خروجهم من السوق مؤكداً".
قبل الأزمة، كان اللفتاوي يملك بعض السيولة "استنفدتها على مدى الشهريْن الماضييْن. حاولت توفير سيولة بطلب قرض 100 ألف شيكل من أحد البنوك، لكنه رفض بحجة غياب اليقين وعدم اتضاح الأمور".
بالنسبة لحمايل وأبو طويلة، فإن تعويلهما فقط على عودة الحياة إلى طبيعتها، ليتمكنا من استعادة نشاط منشأتيهما كالمعتاد، وكلاهما، بكلمة واحدة، لا يعوّل على أي مساعدة من الحكومة أو غيرها، رغم أنهما قاما بتعبئة النماذج الخاصة بوزارتَيْ الاقتصاد والزراعة، كما أنهما لا يفكران بالاقتراض، لغياب اليقين لديهما بشأن القدرة على السداد، في حين يتطلع اللفتاوي إلى تسيهلات بنكية طويلة الأجل نسبياً، لتوفير سيولة كافية لتمكين المنشآت المتضررة من استئناف العمل، "لكن في حال استمرت البنوك في الإحجام عن تقديم قروض مناسبة، فسألجأ إلى إجراء شخصي، كتسييل عقارات".
التخبط وعدم وضوح الرؤى للخروج من الأزمة حالة تطال كافة قطاعات الأعمال الصغيرة تقريباً، وهي في معظمها منشآت عائلية، حتى في الظروف الطبيعية لم تكن لديها القدرة على الوصول إلى مصادر التمويل.
"طلبنا اجتماعاً مع غرفة تجارة رام الله لمناقشة الأوضاع التي نمر بها، والحلول الممكنة، لكن بصراحة ليس لدينا ما نطرحه ولا نعرف ماذا نعمل"، قالت نداء قطامش، صاحبة "أستوديو الرحى" للتصوير في البيرة، وهو واحد من القطاعات الأكثر تضرراً لفقدان موسم المناسبات، بما فيها حفلات الزفاف، لعام كامل على الأقل.
وقالت قطامش: كنا نأمل أن تعوض مناسبات شهر آذار فترة البيات الشتوي في شهرَيْ كانون الثاني وشباط، لكن الشهر الذي كنا نعول عليه بدا أنه الأسوأ حيث ألغيت الحفلات كافة".
في رام الله والبيرة نحو 130 محل تصوير جميعها متوقفة عن العمل بشكل تام منذ إعلان حالة الطوارئ، ولا يبدو أن عودتها إلى العمل قريبة في ظل إلغاء أو تأجيل المناسبات هذا العام، وما يتم منها يقتصر على العائلة بعيداً عن المظاهر المعتادة.
وأضافت قطامش: أصور بين 150 و200 مناسبة سنوياً، معظمها حفلات زفاف، لكن يبدو أن الموسم هذا العام ضرب بالكامل، وضرب معه العديد من القطاعات، كمحلات التصوير، وصالونات التجميل، والأكسسوارات والهدايا، ومحلات الملابس وتجهيزات العرائس، والأثاث والمفروشات، والحلويات، وغيرها من القطاعات التي تعتمد إلى حد كبير على الحفلات والمناسبات في تسويق منتجاتها وخدماتها".
قبل أيام، أنجزت غرفة تجارة رام الله دراسة حول أوضاع المنشآت والمصالح الصغيرة في المحافظة في ظل الأزمة، بما فيها محلات البيع بالتجزئة، وأظهرت، بحسب رئيس الغرفة عبد الغني العطاري، أن الحصة الأكبر من المنشآت الاقتصادية الصغيرة في رام الله والبيرة لقطاع تجارة التجزئة (42%)، يليه قطاع الخدمات (28%)، ثم الصناعة (15%)، ثم الحرف (10%)، وأخيراً قطاع المقاولات (5%).
وقال العطاري: 59% من هذه المنشآت تعطل بالكامل، و25% تأثر جزئياً (استمرت بالعمل بنسب متفاوتة تصل إلى 50%)، فيما استمر 16% من المنشآت بالعمل كالمعتاد، بل زادت مبيعاتها، كالمنشآت المرتبطة بإنتاج وتسويق السلع الغذائية، والمعقمات، والمستحضرات الصيدلية، وأدوات الحماية الصحية، ومن الصعب حالياً تقدير حجم الخسائر ومدى تأثير الأزمة على مستقبل هذه المنشآت، "فالأزمة لم تنته بعد، والخسائر مستمرة"، قال العطاري.
وفي وقت يتطلع قطاع الأعمال إلى الغرف التجارية لإيجاد حلول تخفف من التداعيات الاقتصادية لأزمة "كورونا"، فإن الغرف تنتظر بدورها الحل من الحكومة.
وقال العطاري: "الحكومة هي التي تقود خطة مواجهة التداعيات الاقتصادية للأزمة. كقطاع خاص، نحن لا نستطيع إنشاء صندوق لإعانة المتضررين. هذا عمل الحكومة".
وفي وقت لا يعوّل كثيرون على مساعدات حكومية، أو حتى من أطراف أخرى، فإن أحد المطالب "الواقعية" للقطاعات المتضررة من الأزمة من الحكومة، تخفيف الضرائب والرسوم، وتسهيلات في فواتير الخدمات، والعمل على تسهيلات في أجرة العقارات.
وقال العطاري: كل هذا ندرسه مع الجهات المختصة، لكنه لن يكون مجدياً دون ضخ سيولة، إما على شكل قروض أو منح.
وأضاف: نحن في تشاور مستمر مع الحكومة بهذا الخصوص. هناك توجه لإنشاء صندوق بـ300 مليون دولار هدفه تقديم قروض ميسّرة للشركات الصغيرة، بفترة سماح قد تزيد على ستة أشهر لتمكين قطاع الأعمال من استرداد عافيته. كما علمنا، فإن سياسة الصندوق قيد الصياغة، لكن لا مصدر للمنح حتى الآن، فإمكانيات الحكومة ضعيفة، والبنوك التي تقود هذه العملية، هي جزء من القطاع الخاص، وقدراتها تستنفد، خصوصاً في ظل غياب بنك مركزي قادر على القيام بأعباء السياسة النقدية.