
بقلم: مؤيد عفانة- خبير في المالية العامة
تُعتبر موازنة المواطن إحدى المعايير الدولية لشفافية الموازنات العامة وإدارة المال العام والانفاق العام (IBP, PEFA)، وإنفاذاً للعقد الاجتماعي ما بين الدولة والمواطن، خاصّةً أن المواطن أكبر مُساهم في ايرادات الموازنة العامة، كون تلك الإيرادات مصدرها الضرائب والرسوم المختلفة المُجباة من المواطن، أو الثروات القومية والتي تُعتبر ملك الشعب، أو المساعدات والمنح الخارجة التي تحصل عليه الدولة باسم الشعب، وتُعدّ موازنة المواطن وثيقةً مبسطة للموازنة العامة بحيث تلخص السياسات والتوجهات الحكومية للسنة القادمة بعبراً عنها بالأرقام المُبسطة، وتمكّن المواطن من التعرف على كيفية توزيع النفقات، والإيرادات المخصصة، والمشاريع التطويرية، وبذلك يستطيع المواطن متابعة الإنفاق الحكومي. وتصدر موازنة المواطن سنوياً بالموازاة مع إصدار الموازنة المقرّة والمعتمدة.
وبعكس الموازنات التقليدية التي كانت غالباً ما تقتصر على المختصين وذوي المعرفة المالية العميقة، تأتي موازنة المواطن بلغة بسيطة، وبيانات مختصرة، وأسلوب جذاب يجعلها متاحة للجميع، فتتيح لكل مواطن فرصة فهم أين تذهب أمواله، وكيف يتم توزيع الإيرادات العامة، وأولويات الانفاق الحكومي، لتصبح موازنة المواطن أداة تجعل الحكومة أقرب إلى المواطنين، وتضمن أن السياسات المالية لا تبقى حبيسة الورق، أو حكراً على فئة معينة، بل تصل إلى أكبر شريحة من المواطنين بشكل واضح، وسلس.
كما تكتسب موازنة المواطن أهمية إضافية بوصفها أداة للتربية المدنية، فمن خلالها، تُعزّز الشفافية في المجتمع، والتشاركية المجتمعية، كما أنها تُعززّ مفهوم المواطنة، ومبادئ الحوكمة، كونها تمكّن المواطنين على اختلاف فئاتهم العمرية، أو مناطقهم الجغرافية، أو مستوياتهم التعليمية، من تتبع الموازنة العامة وتوجّهات الحكومة في الانفاق العام، وبالتالي يستطيع المواطن "دافع الضرائب" وأكبر مموّل للموازنة العامة الاطلاع على طبيعة الإنفاق الحكومي بشكل عام، وعلى الوزارات الأكثر تماسّا معه، وأين ستنفق هذه الأموال، وتوزيعاتها وأولوياتها، بشكل مبسط ومفهوم.
وقد شهد العام 2025، ولأول مرة في تاريخ السلطة الوطنية الفلسطينية، اصدار موازنة المواطن لكافة الوزارات، بقيادة مؤسسة "مفتاح" وضمن برنامج الشفافية والأدلة والمساءلة المنفذ من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبالتعاون والشراكة مع وزارة المالية، ومراكز المسؤولية الأخرى، الأمر الذي يمثّل نقلة نوعية في تعزيز شفافية الموازنة العامة، ويقدم نموذجًا جديدًا للتفاعل الايجابي ما بين مؤسسات المجتمع المدني والحكومة، ومع المواطنين، ويجسر الفجوة ما بين السياسات المالية الحكومية والمواطنين، بما يعزز من مبادئ الحوكمة في إدارة المال العام.
كما تعتبر موازنة المواطن رافعة للمساءلة المجتمعية في فلسطين، حيث أن نشر موازنة المواطن، يُحقق ركن رئيس من أركان المساءلة المجتمعية وهو "الشفافية"، وتوفر مدخلات تعزز من إمكانية المساءلة المجتمعية في ضوء بيانات موازنة المواطن، وتُوِسّع باب الحوار بين المواطن أو ممثليه من مؤسسات مجتمع مدني ومنظمات شعبية، مع المؤسسة الرسمية نحو التأثير في السياسات المالية، الأمر الذي يساهم إيجابا في تعزيز العدالة الاجتماعية، وإنصاف الفئات الأكثر تهميشا والأقل حظاً في المجتمع، ومن أجل تحقيق الهدف المرجو من اصدار موازنة المواطن، توجد ضرورة لنشر تلك الموازنات بشكل تفاعلي ويسهل الوصول اليها، من خلال توظيف أدوات الرقمنة والأتمتة في نشر تلك الموازنات، وفي سياقات مقارنة مع السنوات السابقة، وعبر منصة رقمية معتمدة، مما يعزز انخراط مؤسسات المجتمع المدني والمواطنين في متابعة الأداء المالي، وتفاعلهم الإيجابي في الشأن العام وإدارة المال العام، كما توجد ضرورة أن يتم مأسسة اصدار موازنة المواطن من خلال نظام خاص يصدر عن المجلس الوزراء، من أجل اعتمادها في دورة اعداد الموازنة العامة.
إن إصدار موازنة المواطن للوزارات المختلفة، يعدّ قصة نجاح للشراكة ما بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، وهي قائمة على التشاركية والتكاملية، خاصّة وأن تلك الشراكة تحمل في طياتها مأسسة تلك التدخلات في الوزارات المستهدفة ما يضمن استدامة تبني معايير الشفافية الدولية للموازنات، وفي الوقت ذاته تعزز من الشفافية في المؤسسات الحكومية، وتوفر مدخلات علمية تساهم في تطوير مفهوم المساءلة المجتمعية في فلسطين، كونها توفر البيانات للمؤسسات والاعلام والمواطنين من أجل تنفيذ جلسات مساءلة مجتمعية بأدواتها التقليدية أو الحديثة، مما يساهم في الانتقال بمفهوم موازنة المواطن، من مفهوم مجرد في المالية العامّة، الى مفهوم بفضاء أوسع كأداة للتربية المدنية وتعزيز المواطنة ومبادئ الحوكمة.