د.عقل أبو قرع
حسب معطيات حديثة، إزداد التوجه نحو القطاع الزراعي، أو بالأدق نحو العمل في القطاع الزراعي كمصدر للدخل بحوالي 30% مقارنة بما قبل الحرب على قطاع غزة، وبالطبع فإن الأوضاع الاقتصادية ومنها توقف العمل في الداخل وتضاؤل فرص العمل في مناطق الضفة الغربية، هي من أهم الأسباب لذلك.
وبغض النظر عن الأسباب فإن زيادة الإقبال على القطاع الزراعي كقطاع انتاجي مستدام، وما لذلك من أهمية في الحفاظ على الأرض وعلى النظام البيئي وأهمية العمل بكرامة وإنسانية للآلاف من العمال، والحفاظ على استقرار الأسواق، وتحقيق مفهوم الأمن الغذائي، كل ذلك يتطلب من الحكومة ومن الجهات الأخرى العاملة في المجال الزراعي، منح الأولوية لهذا القطاع وتقديم كافة أنواع الدعم والمساعدة، لكي يتم الاحتفاظ بهذا الزخم بشكل مستدام ومع نتائج بعيدة المدى على الاقتصاد والأمن الغذائي.
وفي بلادنا، يعتبر القطاع الزراعي من القطاعات الانتاجية التي نستطيع الحفاظ عليها ودعمها والتخطيط لها وبالأخص هذه الفترة مع تركيز الحكومة الحالية أكثر على الاعتماد على الذات في ظل شح الدعم الخارجي، ومع التوجه أكثر نحو الانفكاك تباعا عن الجانب الإسرائيلي في مختلف المجالات، ومع أهمية الاستثمار في قطاعات إنتاجية مستدامة، تدر الدخل وتشغّل الأيادي العاملة وتحقق الأمن الغذائي وتزيد التصدير الى الخارج، وفي خضم ذلك من المفترض أن يحتل القطاع الزراعي الفلسطيني الأولوية لمشاريع وخطط الحكومة، سواء أكانت قصيرة أو بعيدة المدى.
ونحن نعرف أن القطاع الزراعي في بلادنا، كان له دور هام، وساهم بنسبة هامة في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن حسب تقارير حديثة، فإن مساهمة القطاع الزراعي الفلسطيني في الناتج المحلي الإجمالي قد تقلصت إلى أكثر من النصف، أي من حوالي 9% في عام 1999 إلى فقط حوالي 5% أو أقل من ذلك خلال السنوات القليلة الماضية، ومن الأسباب لذلك هو القيود للوصول إلى الأرض والمياه، خاصة في المنطقة المصنفة "ج"، ولكن هناك أسباب أخرى، يمكننا التحكم بها، ومن خلالها يمكن إيلاء الاهتمام المطلوب لهذا القطاع الانتاجي الهام، وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك في تحقيق الأمن الغذائي من حيث توفير المنتج الوطني، والحد من الارتفاع المتواصل في الأسعار وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة.
وتكمن قوة أو استدامة النمو الاقتصادي لأي بلد، أو ثبات وتواصل النمو في الناتج القومي الإجمالي السنوي، أو أداء الاقتصاد الكلي، بمدى بتنوعه، أي بمدى تنوع القطاعات التي يعتمد عليها، من خدمات ومن سياحة وصناعة وزراعة ومن غيرهما، وهذا ربما يفسر سر نمو وتنامي قوة اداء اقتصاديات بعض الدول، وبل صعودها المتواصل إلى احتلال مواقع متقدمة ضمن أقوى اقتصاديات العالم، وهذا يعني الاستثمار في قطاعات مختلفة، وبالأخص قطاعات انتاجية، تنتج للاستهلاك المحلي وكذلك للتصدير، وتشغيل الأيادي العاملة، وتحافظ على الأمن الغذائي، وتساهم في الناتج القومي الإجمالي، ومنها قطاع الزراعة، وهذا ينطبق على قطاع الزراعة في بلادنا، سواء أكان في المجال النباتي أي فواكة وخضار، أو في المجال الحيواني.
وبالإضافة الى التسهيلات الضريبية والمالية للعاملين أو المستثمرين في الزراعة، فإن دعم القطاع الزراعي يمكن أن يشمل استصلاح الأراضي أو شق الطرق للوصول إليها أو توفير المياه اللازمة للري من خلال مدّ الشبكات أو حفر الآبار لتجميع المياه، والقيام بتوفير المواد التي تتطلبها الزراعة الحديثة من بلاستيك وأسمدة ومبيدات بأسعار مناسبة، والمزيد من الإرشاد الزراعي بأنواعه والذي لا يكفي الموجود منها حاليا، الإرشاد فيما يتعلق باختيار المحصول والأرض، والإرشاد حول استعمال الكيماويات في الزراعة، والإرشاد فيما يتعلق بالقطف والتسويق، والدعم يشمل المزيد من التخطيط الزراعي والنظرة الوطنية لذلك من حيث استخدام المياه والأرض، ومن حيث الاستهلاك المحلي أو التصدير.
والدعم للقطاع الزراعي يمكن أن يشمل التنسيق لحماية المزارع والمنتج الوطني، سواء من خلال العطاءات أو إصدار المواصفات أو الفحوصات المخبرية، والدعم يشمل التوجه نحو الأبحاث العلمية التطبيقية، التي تعمل على تلبية حاجات هذا القطاع وحل مشاكله المحددة، والعمل على إيلاء التدريب الزراعي الأهمية بدءًا من المدارس وحتى الكليات التخصصية، والعمل على تقديم الحوافز والضمانات للقطاع الخاص للتوجه للاستثمار في الزراعة، وكذلك العمل على إزالة تلك النظرة إلى القطاع الزراعي بأنه ليس أولوية وليس مربحا وليس بالخيار الأول للعمل أو الاستثمار فيه.
وتوفير الدعم والتخطيط المدروس في القطاع الزراعي يعني الحفاظ على الاستقرار، ومن ضمن ذلك استقرار الأسعار، لأنه حين تتناقص أو يقل عرض السلع، تبدأ أسعار السلع بالارتفاع، ومن ضمنها السلع الزراعية من خضار وفواكه ولحوم وألبان ودجاج وما لذلك من علاقة بالإنتاج الزراعي، النباتي والحيواني، وهذا ما شهدناه خلال فترات متعددة، وحين ترتفع أسعار منتجات الزراعية، فإن أسعار العديد من المنتجات التي تتداخل بشكل أو بآخر مع المنتجات الزراعية ترتفع كذلك، ومن يدفع ثمن هذا الارتفاع في المحصلة هو المستهلك أو المواطن أو المجتمع.
ومع زخم الإقبال أو العودة إلى الأرض للإنتاج الزراعي، وفي ظل الأزمات الحادة التي أفرزتها وما زالت تفرزها الأوضاع الحالية في بلادنا وبالأخص على صعيد الأمن الغذائي، فإن التخطيط العلمي ودعم القطاع الزراعي يعني الدعم لمنطقة الأغوار الفلسطينية، السلة الغذائية لفلسطين، التي هي في معظمها يتم تصنيفها مناطق "ج"، وغيرها من المناطق ذات القابلية الزراعية المهملة، وهذا يدعونا إلى التفكير والتخطيط الاستراتيجي، وإلى إيلاء قطاع الزراعة وبالتحديد الزراعة في الأراضي الخصبة التي تحوي المياه الجوفية، الأهمية في أي خطط تنموية استراتيجية، لأن هذا النوع من التخطيط هو كفيل بتوفير المزيد من الفرص للعمل وتحقيق الاستقرار المجتمعي، والحفاظ على الأرض وعلى التربة والتنوع الحيوي وعلى الأسعار، وتوفير المنتج الوطني وبالتالي حماية الأمن الغذائي من تداعيات وأحداث نحن الأكثر هشاشة في التعرض لها.