رام الله-(الحياة الجديدة)- أدى التوقف شبه التام للمساعدات المالية الدولية، إلى واقع مالي صعب تعيشه الحكومة الفلسطينية منذ بداية العام الجاري، ويتزامن ذلك مع ضغوط مالية ناتجة عن زيادة القرصنة الإسرائيلية من أموال المقاصة وعن تداعيات جائحة الكورونا اقتصاديًا، وهو ما يجعل المشهد المالي خصوصًا استمرار دفع الرواتب كاملة في الأشهر القادمة ضبابيًا.
وبلغ العجز في الموازنة العامة خلال النصف الأول من العام الجاري 470 مليون دولار، ما اضطر الحكومة لمزيد من الاقتراض من البنوك لتتمكن من الإيفاء بالتزاماتها، وهو ما رفع الدين العام ومتأخرات القطاع الخاص إلى سقوف غير مسبوقة مقتربًا من 9 مليارات دولار.
ومن معطيات كهذه، يبدو السؤال أعلاه مثيرًا للاستغراب في بلد يرزح تحت نير احتلال عسكري، ويعاني من فجوة مزمنة ما بين الإيرادات والنفقات العامة تتسع عامًا بعد آخر. بالطبع تحتاج فلسطين إلى مساعدات مالية، لكنها أحوج إلى مساعدة سياسية من المجتمع الدولي تُترجم بضغوط حقيقية على دولة الاحتلال لينتزع الفلسطيني حقوقه المالية كاملة غير مقرصنة أو منقوصة.
في المقاربة السياسية، فإن المساعدات المالية من المجتمع الدولي تعني المساهمة في سد عجز الموازنة، ولكن الأهم أن هكذا مساعدات ترمز إلى أن العالم ما زال ملتزمًا بقيام دولة فلسطينية، رغم ممارسات سلطة الاحتلال بفرض أمر واقع على الأرض لتقويض هذا الحل.
وفي المقاربة الفنية، فإن بمقدور فلسطين وبخلاف دول كثيرة في العالم الثالث أن تكتفي ذاتيًا من مواردها المالية إذا ما توفرت الضغوط الكافية على إسرائيل لوقف قرصنة الحقوق المالية للشعب الفلسطيني، ووقف الاقتطاع الجائر من العائدات الضريبية تحت مسمى "صافي الإقراض"، ووقف التهرب الضريبي من خلال الحواجز والمعابر الخاضعة لسيطرتها، ووقف العمل بالنسبة المجحفة لقاء جباية أموال المقاصة ومقدارها 3% من المبلغ النهائي.
وتقلصت المساعدات الدولية المقدمة بشكل مباشر للحكومة الفلسطينية وصولا إلى قرابة نصف مليار دولار في المعدل السنوي خلال الأعوام الأخيرة، علمًا أن وقف القرصنة الإسرائيلية بحق الحقوق المالية للشعب الفلسطيني من شأنه أن يضيف الى الإجمالي السنوي لأموال المقاصة مبلغًا أكبر من هذا.
ولما كانت المالية العامة ليست جاهزة للاستغناء عن المساعدات المالية الدولية سياسيًا وفنيًا، تفيد مصادر متطابقة بأن تلك المساعدات أقلها تلك التي يقدمها الاتحاد الأوروبي (قرابة 300 مليون يورو سنويًا) ستعود إلى الخزينة العامة قبل نهاية العام الجاري.
ويبقى النضال لاستعادة الموارد المالية المسلوبة فرض عين بوصفها حقوقًا خالصة للشعب الفلسطيني بمعزل عن عودة المساعدات المالية الدولية من عدمها، وبمعزل عن حجم العجز في الموازنة العامة.
ومع زيادة الاحتلال الإسرائيلي القرصنة من المقاصة لحدود 100 مليون شيقل شهريًا بذريعة أن الحكومة الفلسطينية تدفع هذا المبلغ كمخصصات للأسرى وعائلات الشهداء، بات الصدام مسارًا إجباريًا لاستعادة الأموال الفلسطينية المنهوبة.
بلغة الأرقام
في هذا السياق، كان وزير المالية شكري بشارة طالب المجتمع الدولي بمساعدة السلطة الوطنية الفلسطينية في تسوية الملفات المالية العالقة مع إسرائيل، تجنبًا لانهيار مالي في ظل تراجع المنح الدولية ووصول الاقتصاد الفلسطيني إلى الحد الأقصى في توليد الإيرادات المحلية.
وأخبر بشارة ممثلين عن الدول والجهات المانحة، أن تسوية هذه الملفات توفّر إيرادات إضافية للخزينة الفلسطينية بحوالي 500 مليون دولار سنويًا، كافية لتقليص العجز بما يغني عن المساعدات الدولية لتمويل النفقات الجارية.
ومن ضمن هذه الملفات، الإعفاء من الرسوم المتراكمة الخاصة بمغادرة المسافرين التي تراكمت منذ عام 2008، حيث تحجز إسرائيل حاليًا حوالي 740 مليون شيقل.
كذلك، تخفيض الرسوم (العمولة) التي تجبيها إسرائيل مقابل تحصيل المقاصة الفلسطينية، من 3% إلى 1%، والمزيد من الشفافية في الاستقطاعات الإسرائيلية مقابل الخدمات (المياه، والكهرباء، والصرف الصحي، والصحة).
وقال بشارة إن إجمالي هذه الاستقطاعات خلال 14 عامًا بلغ 10 مليارات دولار. كما يطالب الجانب الفلسطيني إسرائيل بالإفراج عن الاستقطاعات التي تم حجبها من جانب واحد من عائدات المقاصة منذ عام 2019، كما أن هناك مبلغًا متراكمًا قدره 810 ملايين شيقل مخصص لمدفوعات أهالي الشهداء والأسرى والجرحى، والمطالبة الفورية بالتوقف عن ممارسة الاستقطاع.
ومن ضمن الملفات العالقة أيضًا، الضرائب والرسوم على مشتريات الوقود من إسرائيل، حيث تطالب السلطة الوطنية بالإعفاء الضريبي من شركة الوقود الإسرائيلية، حيث تبلغ نسبة هذه الضريبة حوالي 40% من إيرادات المقاصة الشهرية للسلطة الوطنية الفلسطينية.
وقال بشارة إن عدم دفع هذه النسبة سيسمح للسلطة بتوفير ما يصل إلى 82 مليون دولار شهريًا من التدفق النقدي الإيجابي.
وعلى المدى القصير، طالب بشارة بتغيير آلية المقاصة الورقية لضريبة القيمة المضافة، التي اعتبرها "غير فعّالة وتنطوي على مخاطر احتيال عالية وتؤدي إلى خسائر كبيرة للسلطة الوطنية الفلسطينية تقدّر بنحو 120 مليون دولار سنويًا".
ودعا إلى الضغط على إسرائيل للانتقال إلى نظام محوسب متصل بنقطة البيع للحصول على خصومات ضريبية.
كما طالب بشارة المانحين بالضغط على الحكومة الإسرائيلية للسماح بعودة موظفي الجمارك الفلسطينيين لممارسة مهامهم ومسؤولياتهم على معبر الكرامة، ونقل المهام وسلطة الجمارك في مجال التخليص الجمركي من إسرائيل إلى فلسطين، بما يتضمن إنشاء مرافق تخليص جمركي ومستودعات جمركية في مواقع مختلفة في الضفة الغربية، على أن تتولى فلسطين المسؤولية الكاملة في مجال التخليص الجمركي على البضائع المتجهة إلى أسواقها.
السيناريو الأسوأ
ولما كان المجتمع الدولي شريكًا ومحفزًا للمسار السياسي الذي أدى إلى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن توقفه عن تمويلها أمر غير مقبول فلسطينيًا، خاصة أن تقاعسه عن الضغط على إسرائيل أدى إلى الوضع القائم حاليًا.
وبعيدًا عن الأسباب الحقيقة لامتناع المانحين عن الالتزام بواجباتهم تجاه السلطة الفلسطينية بدعمها ماليًا بشكل مباشر، فإن كلّ الذرائع ليست صالحة لتقليل دعمهم لمشاريع البنية التحتية أو مساعدة القاطنين في المناطق المصنفة "ج" على الصمود، أو تقنين مساعداتهم لوكالة "الأونروا".
لكن في السياسة، يبقى أن تتوقع وأن تبقى مستعدًا للسيناريو الأسوأ، ومن ذلك استمرار الشح في المساعدات المالية الدولية، ولكي يكون الفلسطيني جاهزًا لاسترداد حقوقه المالية، يرى مراقبون "ضرورة مضاعفة العمل سياسيًا لوقف القرصنة الإسرائيلية، والعمل فنيًا لوقف الذريعة الاسرائيلية القائمة على الخصم من المقاصة لقاء عدم قيام الهيئات المحلية وشركات توزيع الكهرباء بسداد أثمان الاستهلاك كاملة للشركة القطرية الإسرائيلية، ويتطلب ذلك مزيدًا من الحوكمة وإعادة الهيكلة في الشركات والبلديات على حد سواء".
وفيما يتعلق بالإيرادات، حان الوقت لتحويل شعار "العدالة الضريبية" من شعار إلى واقع من خلال حوار وطني ونقابي. أما فيما يخص النفقات، فمطلوب الكثير من العمل لترشيق المؤسسات العامة ووقف أي انفاق لا طائل منه.