زراعات تقليدية في فلسطين.. تنمية ومقاومة

تاريخ النشر
مزارعون يقطفون أشتال السبانخ في سهول قرية كفردان شمالي غربي مدينة جنين-تصوير عدي دعيبس

رام الله-(وفا)- استحقت أقساط الجامعات للفصل الأول 2021/2022، للأخوات الثلاث: شهد، وزينة، ومي، بمجموع 3400 دولار بما يعادل نحو ثلاثة أضعاف الراتب لوالدهن،  لكن الحل كان بيد الأم: تصنيع أغذية قابلة للحفظ، تقوم على مواسم الزراعات الصيفية.

بدأت سناء عمور، والدة الطالبات الثلاث، بجمع محصول البندورة (الطماطم) البلدية (زراعة بعلية ودون استخدام أية كيماويات) من مزارعين، وتحويلها إلى سلع قابلة للتخزين لفترة طويلة تمتد لعام كامل، جزء على شكل معجون بالغلي لساعات، وآخر بالتجفيف تحت أشعة الشمس، وجزء ثالث على شكل عصير يخزن طازجا في جهاز التجميد (الفريزر)، وهي سلع باتت تلقى رواجا واسعا، خصوصا أنها تخلو من أية مواد حافظة.

هكذا، تمكنت سناء من توفير ما يساعد زوجها على سداد أقساط الجامعات لبناتها، ومثلها آلاف النساء، بمبادرات فردية أو ضمن جمعيات تعاونية.

السنوات الخمس الاخيرة، شهدت قرى شمال فلسطين عودة ملحوظة لمواسم الدورة الزراعية التقليدية ومدتها ثلاث سنوات، إذ تزرع الارض عاما بالبقوليات (خصوصا القطاني التي تستخدم أعلافا للحيوانات)، يليه عام للحبوب (القمح والشعير تحديدا)، ثم عام لإراحة الأرض (الكراب) بزراعة محاصيل الخضار الصيفية، وجميع زراعات الدورة في السنوات الثلاث تعتمد فقط على مياه الأمطار.

ابرز محاصيل الزراعة الصيفية، وأكثرها طلبا، محصول البندورة (الطماطم)، فهي الأكثر طلبا في السوق، ومن أكثر السلع وزنا في سلة استهلاك الاسرة الفلسطينية، وفي الأعوام الأخيرة شهدت قرى شمال فلسطين اقبالا كبيرا على زراعتها.

في قرية عنزة بمحافظة جنين شمال الضفة الغربية، لم ينقطع زياد توفيق عن زراعة الطماطم البلدية عاما واحدا منذ نحو عشرين عاما. يزرع آلاف الاشتال كل عام، على مدى الموسم القصير (يمتد لشهرين فقط على الأكثر)، يجمع ثماره الناضجة يوميا، يعرض جزءا منها للبيع طازجا، ويحول الفائض إلى اشكال أخرى كالمعجون والمجفف ويسوقه على مدى العام لزبائن في المدن.

زياد (أبو مهدي) تخرج في إحدى كليات الصحافة والإعلام قبل نحو عشرين عاما، لكنه لم يكن محظوظا بوظيفة.

"لم يكن أمامي سوى فلاحة الأرض، فصرت اتنقل من موسم إلى آخر، ومن عائداتها تمكنت من تعليم أبنائي. تخرج ثلاثة منهم من الجامعات حتى الآن، وما زال الرابع على مقاعد الدراسة"، قال زياد.

واليوم، بات "أبو مهدي" نموذجا يقلده كثيرون، بمن فيهم موظفون لا يكفي الراتب لسد احتياجات اسرهم.

ويتقاضى حوالي ثلث العاملين في القطاع الخاص الفلسطيني اقل من الحد الأدنى للأجور (445 دولارا).

خلال العقدين الماضيين، عمدت سلطات الاحتلال إلى سياسة تستهدف ربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصادها ورهن الأوضاع المعيشية للفلسطينيين لقراراتها، حيث تترك هذه القرارات أثرا مباشرا وفوريا، ليس فقط على مجمل الاقتصاد والمالية العامة الفلسطينية، إنما على حياة الأفراد والأسر.

ويلجأ الفلسطينيون إلى العديد من الأدوات لاغلاق الفجوة الهائلة بين معدل الدخل ومتوسط الإنفاق، والتي تعود أساسا لبروتوكول باريس الاقتصادي الذي يضع الأراضي الفلسطينية واسرائيل ضمن غلاف جمركي واحد، رغم الفرق الهائل بين الاقتصادين.

ويزيد معدل دخل الفرد في اسرائيل على 40 ألف دولار سنويا، بينما لا يتجاوز معدل دخل الفرد في الاراضي الفلسطينية 3 آلاف دولار سنويا.

احدى أبرز الأدوات التي تتبعها مئات الأسر الفلسطينية لإغلاق هذه الفجوة بين معدل الدخل ومتوسط الإنفاق، توفير ما يمكن توفيره من مواد غذائية بتعزيز الاقتصاد المنزلي واستغلال المواسم الزراعية.

ووفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن وزن مجموعة الغذاء يتجاوز 28 بالمئة من سلة إنفاق الاسرة (حوالي 1270 دولارا شهريا)، أي ما يعادل 355 دولارا شهريا، بينما يتجاوز معدل الأجور 700 دولار في الأراضي الفلسطينية، علما أن حوالي ثلث العاملين في القطاع الخاص الفلسطيني يتقاضون اقل من الحد الأدنى للأجور (445 دولارا).

ويبلغ وزن مجموعة الخضراوات وحدها بحوالي 4.34 بالمئة من سلة انفاق الاسرة الفلسطينية، بما يعادل حوالي 60 دولارا شهريا، منها ست سلع فقط تستأثر بنحو 63 بالمئة من حصة الخضراوات، اكثرها وزنا البندورة (الطماطم)، التي تستأثر بنحو 0.79 بالمئة من اجمالي سلة المستهلك، و29 بالمئة من مجموعة الخضراوات، بما يعادل 20 دولارا شهريا (حوالي 215 دولارا سنويا).

في ظل جائحة كورونا، منذ الربع الأول من عام 2020، حيث فقد نحو 70 ألف عامل وظائفهم، فيما فقدت آلاف الاسر جزءا من دخلها، زاد التوجه لاستغلال اراض تركوا زراعتها منذ سنوات، إضافة إلى ما هو متوفر من مساحات حول منازلهم، وحتى أسطح المنازل، لتوفير ما يمكن توفيره من "مؤونة"، بمساعدة وزارة الزراعة الفلسطينية ومنظمات أهلية بادرت إلى توزيع أشتال متنوعة من الخضراوات على هذه الأسر، بمجموع تجاوز مليون شتلة الموسم الماضي.

عاما بعد عام، مكنت هذه الزراعات الفلسطينيين من إعادة بناء "بنك البذور البلدية"، الخالية من اية معالجات كيماوية أو هرمونية، يعيدون زراعتها لاستخدام الأشتال في مواسم جديدة.