رام الله-أخبار المال والأعمال-أكد معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلســطيني "ماس" أنــه "لا يمكن تحمل تكلفة فرض إغلاق شــامل مشدد لفترة زمنية طويلة في ظل محدودية الحيز السياساتي المالي المتاح أمام الحكومة الفلسطينية"، وذلك استنادًا إلى دراسة جديدة.
وقال المعهد إنه يواصل أنشطته البحثية التي باشرها منذ بدء جائحة كوفيد-19 في فلسطين في إصدار قريب لورقة بحثية علمية هي الأولى من نوعها لنمذجة وتقييم العلاقة بين الآثار الوبائية والاقتصادية للجائحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية) كحالة دراسية خاصة.
وتوصلت الدراسة التي أعدها د. محمد أبو زينة (جامعة إيكس مرسيليا، فرنسا) ود. سميرة عواودة (جامعة بيرزيت، فلسطين) إلى مجموعة من النتائج والمعلومات التي يمكن الاستناد إليها عند وضع مجموعة من التوصيات السياساتية للاستجابة للجائحة، سواء على مستوى سياسات الصحة العامة أو السياسات الاقتصادية.
وتسمح المنهجية الجديدة للنمذجة المستخدمة بتفسير تباين تأثير الصدمة على فئات سكانية مختلفة بهدف تقييم تأثير الصدمة الوبائية ضمن عدة سيناريوهات. باستخدام البيانات الرسمية المتوفرة للفترة ما بين آذار وآب 2020، يقوم النموذج بمقارنة النتائج حول تأثيرات الجائحة وفقا لهذه السيناريوهات. يتم تقدير تأثير كل سيناريو منها على مجموعة من المتغيرات الجزئية، تشمل العرض على العمالة للأفراد، ورأس مال القطاع الصحي والنفقات الصحية، وكذلك بعض المتغيرات الكلية تشمل مستوى النفقات الحكومية الصحية وغير الصحية والناتج المحلي الإجمالي.
بشكل عام، تشير النتائج إلى تباين مخاطر انتشار الوباء في الأراضي الفلسطينية المحتلة ما بين مخاطر متوسطة ومرتفعة. في حالة عدم توفر لقاح فعال لمكافحة الوباء، قد تكون سياسة الإغلاق فعالة ولازمة للحد من انتشار الفيروس وتخفيف آثاره السلبية على صحة السكان. مع ذلك، لا يمكن تحمل تكلفة فرض اغلاق شامل مشدد لفترة زمنية طويلة في ظل محدودية الحيز السياساتي المالي المتاح للسلطة الوطنية الفلسطينية.
الخالدي: الاستجابة المطلوبة شاملة وليست جزئية
بالتالي، فإن الاستجابة السياساتية التي تستهدف "الأشجار" (أي العناقيد/سلاسل العدوى) لا "الغابة" (الجميع دون تمييز) هي السياسة الأنسب في الظرف الفلسطيني. ويجب توجيه هذه الاستجابة السياساتية نحو تعزيز القدرة الكلية للنظم الصحية (القوى العاملة في القطاع الصحي، والنفقات، والبنية التحتية). يتضمن ذلك، متابعة مستجدات بيانات العدوى المرصودة يوميا لتنفيذ مجموعة من التدخلات الطارئة لتحديد وتقييم ومعالجة جميع العوامل والمخاطر المرتبطة بانتشار جائحة كوفيد-19.
تعليقا على الدراسة، أشار مدير عام "ماس" رجا الخالدي، أن نتائج الدراسة تؤكد أن مواجهة العواقب الاقتصادية الكارثية الناجمة عن جائحة كوفيد-19 يتطلب أكثر من مجرد وضع سياسات مباشرة خاصة بالقطاع الصحي إلى وضع مجموعة أشمل من التدابير والسياسات الاقتصادية. ومن التدابير الاقتصادية العاجلة التي تقترح الدراسة تنفيذها، مبدأ الاستحقاق بناء على استطلاع الموارد المالية (أي استهداف الفئات الأشد تأثرا اقتصاديا) للمساعدة في تخفيف الآثار الاقتصادية السلبية للوباء على أكثر القطاعات الاقتصادية تضررا فضلا عن الفئات الأشد ضعفا من السكان التي تتحمل عبئا مضاعفا لتأثرها صحيا وتكبدها خسائر اقتصادية.
الآثار الصحية في حالة عدم وجود أي استجابة
يحاكي تأثير وباء كوفيد-19 أثر صدمة وبائية عامة (على افتراض أن الجميع عرضة لخطر الوباء بشكل متساوي). مع ذلك، يجب التركيز بشكل كبير على توعية مختلف الفئات الديموغرافية والاجتماعية السكانية بالآثار المتباينة للوباء، لا سيما العبء المزدوج الذي عانت منه الفئات السكانية الأكثر عرضة للخطر. حتى لو كان الجميع عرضة للإصابة بالوباء بنفس الدرجة، إلا أن عواقبه المحتملة على صحة الأفراد ورفاههم عامة ستتفاوت إلى حد كبير. ستعاني الفئات الأكثر عرضة للخطر من معدل تراجع في رأس المال الصحي يتراوح بين 11٪ و11.8٪ من الصدمة الوبائية العامة أو صدمة كوفيد-19 المحدودة، مقارنة بمعدل تراجع للفئات الاقل عرضة للمخاطر بنسبة تتراوح بين 7.0٪ و3.2٪.
الآثار الاقتصادية في حالة عدم وجود أي استجابة
يبدو أن تأثير وباء كوفيد-19 على مستوى الاقتصاد الكلي يضاهي تأثير سيناريو الصدمة الوبائية العامة، والذي يتوقع أن يؤدي لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ما بين 3.4٪- 3.2.٪. فيما يتعلق بالنفقات الحكومية، يمكن أيضا ملاحظة آثار مماثلة في ظل الجائحة العامة ووباء كوفيد-19 المحدود (يقدر التراجع في النفقات الحكومية غير الصحية بحوالي 35٪، والتراجع في النفقات الحكومية على القطاع الصحي بنسبة تتراوح بين 36٪ و33٪).
إن النتائج التقديرية للتأثير الكلي لوباء كوفيد-19 على الاقتصاد الفلسطيني خلال الفترة قيد الدراسة المذكورة هنا مشابهة لنتائج الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للأداء ربع السنوي الفعلي. حيث يقدر التراجع في الناتج المحلي الإجمالي للربع الأول 2020 بنحو 3.4٪ و4.9٪ مقارنة بالربع الأول والأخير من العام 2019 على التوالي. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض نتائج الدراسة تختلف عن التوقعات السابقة بشأن تأثير جائحة كوفيد-19 على الاقتصاد الفلسطيني. وتعود هذه الاختلافات أساسا إلى اختلاف الفرضيات واستراتيجيات النمذجة المستخدمة. على عكس التقديرات السابقة، يعكس النموذج الحالي الآثار الوبائية والاقتصادية للجائحة سواء المباشرة أو غير المباشرة (من خلال دالة إنتاج الصحة).
أظهرت النتائج أن الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار الصحي يسيران في نفس الاتجاه. لذلك، في الدراسة الحالية، يتم تعويض التاثير السلبي على الناتج المحلي الإجمالي الناجم عن انخفاض الإنفاق الحكومي جزئيا بزيادة في الإنفاق الاستهلاكي للأسر مما أسفر عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 3.7٪. على النقيض من ذلك، فإن التراجع في الناتج المحلي الإجمالي في التوقعات السابقة للجهاز المركزي للإحصاء ومعهد "ماس" بنسبة ما بين 14-20٪ تشكل أساسا من انخفاض إجمالي الإنفاق الحكومي (الذي تراوح في التقديرات الأخرى بين 23-42٪).
الاستجابة السياساتية المركّزة للقطاع الصحي
يمكن للاستجابة السياساتية لمكافحة جائحة كوفيد-19 التي تعتمد على زيادة الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة أن تساعد في التخفيف من الآثار السلبية للوباء على صحة السكان، ولا سيما الفئات الاشد عرضة للخطر والمستضعفة. من ثم، فإن العبء الإضافي للنفقات الصحية المباشرة للأسر أقل في ظل هذا السيناريو (بلغ متوسط الزيادة في النفقات الصحية للأسرة 111٪ مقارنة بـ 142٪ في ظل السيناريو الذي يفترض عدم وجود تدخلات). ينطوي مثل هذا التدخل السياساتي على إعادة تخصيص الموارد الحكومية لصالح القطاع الصحي بدلاً من سياسة مالية توسعية عامة. في الواقع، في ظل ظروف ميزانية مقيدة بشدة لضبط الزيادات الكبيرة في الإنفاق العام، تتعلق إحدى القضايا السياساتية الرئيسية بالمساحة المالية المتاحة للحكومة.
تأثير الاغلاق
مع الانتشار الواسع لفيروس كوفيد-19 ومعدلات الإصابة اليومية المتزايدة بالفيروس والوفيات الناتجة عنه، يبرز سؤال متعلق بالسياسة العامة حول ما إذا كان يجب اعتماد تدابير صارمة للحفاظ على الصحة العامة من خلال فرض إغلاق شامل للتصدي للفيروس. عند مقارنة سيناريو الإغلاق بسيناريو عدم اتخاذ أي إجراء، تشير النتائج إلى أن سيناريو الاغلاق قد يكون بالفعل خيارا سياساتيا افضل من عدم اتخاذ أي إجراء، من حيث النتائج على المستوى الجزئي والكلي قيد الدراسة.
بينما يمكن أن يساعد فرض إغلاق مشدد على مدار فترة زمنية طويلة في منع تفشي الفيروس، إلا انه سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد بشكل عام، وبالتالي، قد لا يبدو الخيار السياساتي الأفضل. في الواقع ، أظهرت نتائج دراسات اخرى أن البلدان النامية قد لا تستطيع تحمل تكلفة فرض إغلاق مشدد لفترات طويلة ولا تستطيع تحمل الخسائر الاقتصادية والصحية الباهظة للوباء. مما يستدعي البحث عن إجراءات بديلة يمكن تحمل تكلفتها (بأقل تكلفة ممكنة) يمكن أن تستهدف "الأشجار" بدلاً من "الغابة". تتطلب هذه السياسة ايجاد توازن بين حماية الأرواح (حماية صحة المواطنين) وسبل الرزق (الحد من الخسائر الاقتصادية). بالطبع، من أجل السيطرة على الفيروس لحين توفر لقاح، هناك العديد من التدابير الوقائية والاحترازية المجدية التي ثبت فعاليتها في إبطاء أو حتى وقف تفشي الفيروس.
تشير نتائج المحاكاة بوضوح إلى أن استجابة سياساتية صحية تستهدف القطاع الصحي بشكل خاص قد يتم تفضيلها على استجابة سياساتية تعتمد على فرض الاغلاق الشامل. فعليا، يبدو أن اتباع سياسة صحية له نفس فعالية اتباع سياسة الإغلاق من حيث تأثيره الوقائي الشامل على صحة الأفراد (تراجع كلي في رأس المال الصحي لحوالي 5.6٪ مقارنة بـ 4.2٪ في ظل فرض الإغلاق الشامل). في الواقع، اذا ما تفحصنا نتائج الفئات الاجتماعية والديموغرافية بشكل منفصل نجد أن فرض الإغلاق سيحمي بشكل خاص الفئات الاكثر عرضة للخطر (تراجع رأس المال الصحي بنحو 6.3٪ مقارنة بـ 8.3٪ في ظل سيناريو تطبيق استجابة سياساتية).
تشير هذه النتيجة مرة أخرى إلى أهمية مراعاة التاثيرات المتباينة الناجمة عن تنفيذ مثل هذه الإجراءات الوقائية على الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة من السكان. على الرغم من أن الوباء لا يميز بين الفقراء والأغنياء، إلا أن عواقبه يمكن أن تكون متفاوتة للغاية، لا سيما بين من لا يتمتعون بغطاء حماية وذوي الدخل المتدني والذين يعتمد وصولهم لخدمات رعاية صحية جيدة وميسورة التكلفة إلى حد بعيد على قدرتهم على الدفع.
انعكاسات الاستجابة السياساتية على المالية العامة
يبدو أن تطبيق سياسة الإغلاق مرتبط بزيادة طفيفة فقط في الانفاق الحكومي على القطاع الصحي (بنسبة 3.4٪ فقط) وتراجع بنسبة 23.5٪ في الإنفاق الحكومي (غير الصحي). بشكل عام، يشير هذا إلى أن فرض إغلاق للحد من كوفيد-19 سيساعد الحكومة بشكل أساسي على تجنب دفع الفاتورة الباهظة المحتملة للوباء، إذا ما انتشر سريعا وتطلب استجابة أكثر شمولية واستدامة لمكافحته.
اللقاح: الرصاصة السحرية؟
تؤكد النتائج على الدور الحيوي للقاح في توفير وقاية فعالة وآمنة ضد كوفيد-19. وبطبيعة الحال، فإن توفير هذا اللقاح سيضع حدا للنقاش الدائر حول ما إذا كان ينبغي وضع سياسات لإنقاذ الأرواح أم لإنقاذ الاقتصاد. ويبدو أن توفير لقاح سيكون له تأثير إيجابي فوري على المستوى الجزئي والكلي. إلا أن عدد الجرعات المحدودة التي يمكن توفيرها من اللقاح في المرحلة الأولى تثير تساؤلا آخر حول فئات السكان الأحق بالحصول على اللقاح أولا. أخيرا تسلط نتائج الدراسة الضوء على الآثار الصحية والاقتصادية الإيجابية للقاح على الفئات الأكثر عرضة للخطر؛ أي المسنين، والأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية والنساء البالغات.