رام الله-أخبار المال والأعمال- عقد معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) لقاء طاولة مستديرة بعنوان "مستقبل العمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلي في ضوء الحقائق الاقتصادية والسياسية"، بمشاركة مجموعة من المختصين وذوي الخبرة والمهتمين.
واستعرض الباحثان وليد حباس من مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، وعصمت قزمار من معهد "ماس"، الورقة خلفية التي أعداها حول الموضوع، فيما عقَب على الورقة كل من القائم بأعمال مدير دائرة تشغيل الفلسطينيين في الخارج في وزارة العمل عبد الكريم مرداوي، ورجل الأعمال، عضو في اتحاد المقاولين الإسرائيليين مراد الخطيب، والمحاضرة في جامعة ماساشوستس د. ليلى فرسخ، بحضور نحو 50 خبيرا وممثلا عن مؤسسات فلسطينية ودولية وجاهياً ورقمياً.
وأكد المدير العام للمعهد رجا الخالدي أهمية الموضوع، وأن هذه الورقة تأتي في إطار اهتمام المعهد بمتابعة القضايا الاقتصادية والاجتماعية المستجدة التي تهم المواطن الفلسطيني وصاحب القرار، حيث يعقد المعهد جلسات الطاولة المستديرة الدورية لمناقشة هذه المواضيع باعتبارها أحد الأدوات لاقتراح توصيات سياساتية تفيد في عملية صنع القرار، بما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد والمواطن الفلسطيني.
وسلط الخالدي الضوء على "الأرقام الصادمة حول ارتفاع عدد العمال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية ومساهمتهم المتزايدة في توليد الدخل القومي، بموازاة تعاظم دور الإدارات الاحتلالية في التحكم بالقوة العاملة الفلسطينية، وتداعيات ذلك على مسار التنمية الفلسطينية وجهود بناء اقتصاد وطني منفك عن التبعية الاستعمارية".
وتساءل: "إذا كان التوجه الفلسطيني العام هو قبول هذا التوجه الإسرائيلي لاستيعاب مئات الألاف من العمال الفلسطينيين، فهذا يقتضي إعادة التفكير بكافة السياسات الخاصة بالانفكاك أو حتى مفهوم الاقتصاد الوطني المستقل". كما شكر الخالدي مؤسسة هنريش بول (فلسطين والأردن) لدعمها هذا اللقاء، وهو الرابع في سلسلة نظمها المعهد بالتعاون مع تلك المؤسسة الشريكة منذ 2019 لإلقاء الضوء على أبرز التطورات في ملف العمالة الفلسطينية في إسرائيل.
ورقة ماس الخلفية
في إطار عرض الورقة، بين الباحثان أن العقد الماضي شهد ارتفاعاً مضطرداً في عدد العاملين الفلسطينيين في إسرائيل ونسبتهم من إجمالي العاملين. وفقا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ارتفع عدد العاملين في إسرائيل من 78,000 عامل بنهاية العام 2010 ليصل إلى 173,400 في الربع الأول من 2022، بالإضافة إلى 31,000 يعملون في المستوطنات الإسرائيلية. شهدت السنوات الخمس الأخيرة الارتفاع الأكبر والأسرع في هذه الأعداد، وهو ارتفاع لم يشهده الاقتصاد الفلسطيني منذ عقدين، بل يفوق اليوم العدد الإجمالي ما وصل إليه في 1999 حين كان يعمل قرابة 140 ألف فلسطيني (من الضفة الغربية وقطاع غزة) في الأسواق الإسرائيلية، شكلوا حينها 22,9% من إجمالي العاملين (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2000). بينما شكّل دخل العمالة في إسرائيل 6% من الدخل القومي الإجمالي الفلسطيني عام 2011. أما اليوم، تشير البيانات الربعية الصادرة عن جهاز الإحصاء، أن قيمة تعويضات العاملين في إسرائيل خلال الربع الأول للعام بلغت نحو 945.9 مليون دولار (أي ما نسبته 16% من الدخل القومي الإجمالي).
على الرغم من أن ارتفاع معدلات البطالة في فلسطين، والفرق الكبير والمتنامي بين الأجور الفلسطينية والإسرائيلية، يبدوان سببين منطقيين لحدوث ذلك من منظور اقتصادي. إلا أنه من منظور أوسع، ورغم الطلب المتزايد داخل إسرائيل للأيدي العاملة الإنشائية والخدماتية الأرخص، فإن الأمر يأتي في سياق المساعي العلنية لفرض أطروحات السلام الاقتصادي، وهو ما يمثل أصلا أحد الثوابت الأساسية في السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تحت الاحتلال: إدارة السكان، الحيلولة دون التحرر الوطني، مقابل التوسع الاستيطاني على الأرض. يبدو هذا جليا عند المقارنة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فمعدلات البطالة في قطاع غزة أعلى بكثير من الضفة الغربية، والفرق في الأجور بين قطاع غزة وإسرائيل كذلك أعلى، ولكن إسرائيل لا تسمح سوى لعدد محدود من عمال قطاع غزة من دخول إسرائيل. إذن فالعامل الأساسي والحاسم في تحديد حجم العمالة في إسرائيل هو سياسات السيطرة والاستغلال الاستعمارية الإسرائيلية، وليس قوى السوق الحرة.
إلا أن القرارات الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة لم تقتصر على زيادة حصص تصاريح العمل الممنوحة للفلسطينيين، بل شملت استحداث حصص في قطاعات لم تحظ في السابق بحصص، مثل قطاع الهاي-تك، وموظفي القطاع الصحي (المقصود ممرضين أو أطباء لتمييزهم عن عمال النظافة في القطاع الصحي والذين يندرجون في قطاع الخدمات)، والفنادق والمطاعم (والذين في السابق كانوا يحتسبون ضمن حصة قطاع الخدمات). كما شملت ابتداء من 2021 السماح لعمال غزة بالدخول الى إسرائيل للعمل وفق حصة أولية وصلت الى حوالي 20,000 عامل موزعة على قطاعات البناء، والزراعة والخدمات (توقفت إسرائيل عن السماح لعمال قطاع غزة من دخول إسرائيل في العام 2006). وأخيرا شملت هذه القرارات تغييرات في نظام إصدار التصاريح، وآليات الدفع للعمال.
التغييرات والمستجدات التي فرضتها إسرائيل فيما يتعلق بالعمال الفلسطينيين منذ العام 2016
في 18 كانون أول 2016، أصدرت حكومة نتنياهو قرار حكومي رقم 2174 بعنوان "زيادة حجم توظيف العمال الفلسطينيين في إسرائيل من منطقة يهودا والسامرة، وتحسين طريقة إصدار تصاريح العمل وضمان ظروف عمل عادلة للعمال الفلسطينيين". على الرغم من وجود عشرات القرارات الحكومية خلال العقد ونيف الأخيرين فيما يخص العمال الفلسطينيين، بالإضافة الى المداولات المستمرة في لجان الكنيست وداخل أجهزة الدولة المختلفة، فإن هذا القرار على ما يبدو يعتبر تأسيسي لمرحلة تحاول إسرائيل من خلالها انتهاج سياسة جديدة فيما يخص العمال الفلسطينيين، ويمكن تلخيص هذه السياسية في ثلاث محاور، كما هو واضح من عنوان القرار نفسه:
1. زيادة حجم العمال الفلسطينيين، خصوصا في قطاع البناء، وابتداء من العام 2022 البدء بتخصيص كوتا للعمال الفلسطينيين القادمين من غزة.
2. "تحسين" (أو في الواقع "تغيير") طريقة إصدار التصاريح والتي يلعب السماسرة فيها دورا ملموسا في استغلال العمال، واقتطاع جزء من أجورهم.
3. تغيير ظروف العمل من خلال تطوير نظام دفع أجور العمال بحيث يتم تدريجيا استبدال آليات الدفع النقدي باليات دفع بنكية عن طريق حوالات ما بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية.
هل تمهد إسرائيل لعودة سوق العمل الموحدة؟
في ظل عودة نسبة العاملين في إسرائيل إلى الارتفاع بشكل مضطرد، لتصل مع نهاية الربع الأول لهذا العام إلى 18.4% من إجمالي العاملين في فلسطين، و24.5% من إجمالي العاملين في الضفة الغربية. في ظل المعطيات التي أوردتها الورقة، والتي توضح نوايا إسرائيل في توسيع دائرة استغلالها للقوى العاملة الفلسطينية، وتحسين، ورفع كفاءة الإطارة التنظيمي لعملية السيطرة والاستغلال الاستعمارية، يصبح التساؤل مشروعا، لا بل ملحا، عما إذا كانت إسرائيل تمهد الطريق لإعادة العمل بسوق العمل الموحدة (وإن من خلال آليات مختلفة، أكثر صرامة وضبطا وتطورا). على أرض الواقع، يظهر هذا التوجه كجزء من العملية الزاحفة الأكبر والهادفة لضم الضفة الغربية، حيث أن التطورات في محور العمل ليست منعزلة عن سياق أوسع من الإجراءات الإسرائيلية السياسية والسياساتية والعملية التي تهدف إلى تعميق وإدامة حالة التبعية الاقتصادية الفلسطينية، سواء من خلال علاقات التعاقد من الباطن، أو التبادل السلعي.
من جانب آخر، ترافقت الزيادة المضطردة في أعداد العاملين في إسرائيل، مع ما يمكن القول إنه ظاهرة منحرفة في سوق العمل الفلسطيني، حيث يعاني الأخير من معدلات بطالة عالية، وفي نفس الوقت يدور الحديث عن شح في العمالة. قد طفت هذه القضية على السطح على إثر تصريحات رئيس الوزراء، وكذلك المجلس التنسيقي للقطاع الخاص الفلسطيني حول الموضوع. مرد ذلك إلى أن نسب البطالة المرتفعة تتركز في أوساط خريجي الجامعات، وبشكل أكبر بالنسبة للخريجات. وهي الفئات التي لا يمثل العمل في إسرائيل بالنسبة لها خيارا ممكنا. أما بالنسبة للعمالة غير المهرة، فإن انتقال جزء كبير منها للعمل في إسرائيل بدافع الفرق في الأجور، أدى إلى نقصها في السوق المحلي، وإلى ارتفاع الأجور في قطاعات معينة. هو الأمر الذي أكدته نتائج مجموعة من المقابلات والمجموعات البؤرية التي نفذها ماس خلال العامين الماضيين، وضمت أرباب عمل، وممثلين عن القطاع الخاص، ووزارة العمل الفلسطينية، ونقابات العمال (ماس، 2022: 46).
أخيراً، خلصت الورقة الى ربما أكثر خطورة هو التوجه الإسرائيلي الجديد لفرض حقائق اقتصادية على الأرض تعزز من الحقائق الأمنية والسياسية الاستعمارية التي لا تضع في الأفق سوى المزيد من الاستيطان والتحكم بموارد الشعب الفلسطيني كافة، في ضم اقتصادي ربما يسبق الضم القانوني والسياسي.
مداخلات المتحدثين
وتناول مرداوي عدة جوانب إضافية فيما يتعلق بالعمالة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي، مبيناً وجود عدة أنواع لتصاريح العمل المتاحة للعامل الفلسطيني منها تصاريح عمل وتصاريح تجارية وتصاريح الدخول لأراض زراعية وغيرها.
وقال: "من ناحية تحويل رصيد توفيرات العمال من البنوك الإسرائيلية، فإنه بناء على ترتيب جديد يدخل حيز التنفيذ في نيسان 2023، سيتم تحويل هذه التوفيرات مباشرة من قبل شركة تحت اسم الزملاء لحسابات العمال البنكية مباشرة ودون أي دور لوزارة العمل الفلسطينية أو محامين".
وبخصوص العمال من قطاع غزة، أشار إلى عدم حصول هؤلاء العمال على أي نوع من الحماية أو حقوق العمل أثناء عملهم بالخصوص، حتى لدرجة حرمانهم من اقتطاعات واستحقاقات العمل.
ولفت مرداوي إلى التوجه الإسرائيلي المستمر لاستغلال العمالة الفلسطينية بالتملص من الإيفاء بحقوقهم.
بدورها، بينت فرسخ أن الوضع القائم للعمالة الفلسطينية هو نتاج جمود الوضع السياسي والاقتصادي في فلسطين على مدى سنوات ما بعد اتفاقيات أوسلو. خلال تلك الفترة لم ينم الاقتصاد الفلسطيني بوتيرة تسمح بتوفير الفرص للقاعدة العمالية الفلسطينية لا كماً لأعداد عمال متزايدة ولا نوعا من حيث مردود دخل يضمن الانفكاك الحقيقي عن سوق العمل الإسرائيلية. ويمكن تفسير إقبال العمال المتزايد على السوق الإسرائيلية في الأعوام القليلة الماضية كنتاج للأزمة الاقتصادية التي تبعت وباء كورونا في بداية 2020. ولكن على المدى الأبعد، فإن فرص العمل المتاحة في السوق الإسرائيلي تعتبر مرغوبة بسبب فرق الأجور الكبير، وأيضا النمو الذي لا زال يشهده الاقتصاد الإسرائيلي بدوره وفي قطاعات ذات إنتاجية عالية.
النقاش بين المشاركين
أجمعت مجمل المداخلات من المشاركين على التوظيف السياسي الممنهج للعمالة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي. فقبل أن يكون استقطاب العمال الفلسطينيين مبنيا على دافع اقتصادي، فإنه بالأساس أداة سياساتية إضافية تعتمدها سلطات الاحتلال في إدارة الصراع والسكان الفلسطينيين بالتحديد. فكما عقب د. بلال فلاح فإن فهم هذه الظاهرة والأهم من ذلك صوغ الرد الفلسطيني في هذا المجال يحتاج لتحليل المنهجية الإسرائيلية في هذا الخصوص وأهدافها، وبالتوازي نقاش الإستراتيجية السياسية الفلسطينية الموحدة في مواجهة المشروع الإسرائيلي قبل التطرق للسياسات الاقتصادية سواء في مواجهة هذه الظاهرة أم غيرها.
بدوره بين د. سمير عبد الله أن سياسة فرض التبعية وتقويض البدائل التي تحاول السلطات الإسرائيلية فرضها ليست بالجديدة في تاريخ سياسات السيطرة الاستعماريّة، وبناء عليه أكد ضرورة التعمق في موضوع دراسة العمالة الفلسطينية من الناحية السياسية والاقتصاديّة في الدراسات المستقبلية. وأشار عبد الله أيضا إلى أن موضوع تفعيل إنشاء صندوق الضمان الاجتماعي يجب أن يعتبر من أبرز الأوليات من قبل الجهات الفلسطينية، لما له من دور في تفعيل حفظ حقوق العمال.
وعن أبرز مسببات إقبال العمالة الفلسطينية على سوق العمل الإسرائيلي، حدد د. محمود الجعفري فرق الأجور كأبرز العوامل لذلك، سواء من العاملين أو العاطلين عن العمل في السوق الفلسطيني. لكن في مقابل معدل أجور أعلى في السوق الإسرائيلي، بين الجعفري بأن ظروف العمل القاهرة التي تواجه العامل الفلسطيني من ساعات سفر طويلة وإجراءات أمنية وعدم توفر إجراءات السلامة في أماكن العمل نفسها تفرض تكاليف اقتصادية باهظة على العمال. اعتبر ذلك من الأوجه التي تغفل كثير من الدراسات عن دراستها.
بدوره، أشار عزمي عبد الرحمن إلى ضرورة مراقبة الآثار الاقتصادية المباشرة لإقبال أعدادا متزايدة من العمال الفلسطينيين على العمل في السوق الإسرائيلي وبالتحديد على القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، يتصدرها الزراعة والقطاع الصناعي. فكما وضح، فإن قطاع الزراعة يواجه نقصا كبيرا في أعداد الأيدي العاملة المتاحة، الأمر الذي يرجع إلى تدني الأجور المتاحة في السوق الفلسطيني بمقارنة بالبدائل. وطالب عبد الرحمن بضرورة التدخل السريع من قبل الهيئات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية المختلفة لدعم القطاعات الإنتاجية التي تواجه نقصا بالعمال، والذي يتضمن تدخل النقابات العمالية في عملية تطبيق كافة قوانين العمل الضامنة للأجور وظروف العمل.
وطرح سمير حليلة عدة محاور رئيسية يجب معالجتها تتعلق بالنمو الاقتصادي للقطاعات الإنتاجية في فلسطين وأيضا حماية العمالة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي، فأولا أشار حليلة إلى أنه لا بد من مراجعة الاتفاقيات المنظمة لارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي وعلى رأسها بروتوكولات باريس. ويتضمن ذلك أوجها عديدة يتصدرها دور السلطة الوطنية الفلسطينية في تنظيم حركة العمال الفلسطينيين، وأيضا الإطار القانوني المنظم لعقود العمل وأجور العمال والاقتطاعات المختلفة وغيرها. ثانيا، أكد حليلة ضرورة رعاية نقاش شامل وجاد على عملية التوظيف الاقتصادي لمستحقات العمال في إطار النمو والتطور الاقتصادي في فلسطين، بما يتضمن أيضا طرح برامج حكومية وشبه حكومية لتدريب العمال الفلسطينيين الذين يتوجهون للعمل في السوق الإسرائيلي.