رام الله-أخبار المال والأعمال-عقد معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في مقره برام الله لقاء طاولة مستديرة بعنوان "أبعاد معضلة قطاع الكهرباء في فلسطين بين القطاع العام والقطاع الخاص: حالة شركة كهرباء القدس"، وناقشت الجلسة المشاكل المالية لشركات القطاع الخاص العاملة في قطاع الكهرباء، وعلاقتها بالخزينة العامة، والمشاكل القانونية والتنظيمية، والتحديات الناجمة عن تعقيدات تصنيف المناطق الفلسطينية، وعدم التزام جزء من المستهلكين بالأنظمة والقوانين.
وركزت الجلسة على أزمة شركة كهرباء القدس كونها مؤسسة تقدم خدمة الكهرباء لحوالي مليون مواطن فلسطيني، بما في ذلك في العاصمة القدس. وشارك في الجلسة مدعوون من القطاعين العام والخاص ومن ذوي الاختصاص والخبرة، وقياديين سياسيين وعدد من أعضاء مجلس إدارة شركة كهرباء القدس وشركات توزيع كهرباء اخرى.
وفي بداية الجلسة، أكد رجا الخالدي، المدير العام لمعهد ماس أنه ليس هناك شك بأن قطاع الكهرباء يمثل ركن من أركان الاقتصاد الوطني، ومزود لما هو ربما أهم سلعة لعموم الشعب، ما يجعل الكهرباء بمثابة "سلعة عامة". وفي الحالة الفلسطينية التي تنقصها السيادة على كامل أراضيها وحدودها ويبقيها مرهونة لاحتلال استعماري يهدد الكيان الفلسطيني بأسره، فإن الكهرباء تصبح سلاح استراتيجي للمحتل، بقدر ما يستطيع التحكم بتوريدها، وللاقتصاد الوطني، بقدر ما يستطيع أن يولد جزءاً منها ذاتياً. تتلخص هذه المعضلة بين الكهرباء بصفتها عصا للاحتلال، وصفتها رصيد فني واستثماري ومالي لقدرة الشعب الفلسطيني التاريخية على الإدارة المستقلة لأمور الحياة، تتلخص بشكل جلي في حالة شركة كهرباء القدس، كما أن أزمتها الحالية تلخص جيدا تعقيدات العلاقة ونقاط الاشتباك بين فلسطين وإسرائيل، وحالة هامة في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص في إدارة مورد وطني حيوي.
وأعد المعهد ورقة خلفية حول الموضوع عرضها الباحث في المعهد مسيف جميل، فيما قدم المداخلات الرئيسية في الجلسة كل من المهندس ظافر ملحم رئيس سلطة الطاقة والموارد الطبيعية، والمهندس هشام العمري رئيس مجلس ادارة ومدير عام شركة كهرباء محافظة القدس، والمهندس حمدي طهبوب المدير التنفيذي لمجلس تنظيم قطاع الكهرباء الفلسطيني.
وجاء في الورقة شرح حول طبيعة المشكلات والتحديات الي تواجه قطاع الكهرباء في فلسطين، فمنها ما هو ناجم عن تخلف الهيئات المحلية عن السداد، الأمر الذي فاقم من مشكلة صافي الإقراض، ومنها أيضا الفاقد الذي يصل الى 22% (10 فاقد فني، 12% سرقات أو فاقد أسود)، ومشاكل أخرى مثل عدم انضمام عدد من الهيئات المحلية إلى شركات التوزيع وإبقائها على علاقتها مع الشركة القطرية الإسرائيلية، بالإضافة الى إنفاذ القوانين وخاصة ما يتعلق بالعقوبات، وأيضا مشكلة تحمل الخزينة العامة لمسؤولية سداد فاتورة الكهرباء عن المخيمات، ومشاكل صيانة الشبكات والتكاليف الإضافية المرتفعة. وأخيرا، ظهر ما عرف بـ "أزمة شركة كهرباء القدس" والديون المتراكمة على السلطة الفلسطينية للشركة القطرية الإسرائيلية والاقتطاع من أموال المقاصة لتغطية هذه الديون.
وفيما يتعلق بأزمة كهرباء شركة كهرباء القدس، اعتبرت الورقة أن الأزمة عامة وليست خاصة، وذلك لسببين، أن هذه الأزمة طالت وزارة المالية الفلسطينية وخزينتها (بغض النظر عن السبب) وهذا يمس بالموازنة الفلسطينية العامة التي تؤثر على كل مواطن فلسطيني، فأي ضغط على خزينة السلطة سيكون على حساب مخصصات المواطنين ومؤسسات السلطة وبالتالي تأثيرها عام وليس خاص. الثاني، كونها شركة فلسطينية مقدسية توفر سلعة من السلع ذات المصلحة العامة، وأن نطاق التغطية يشمل معظم مناطق وسط الضفة الغربية. ويمكن إضافة عامل آخر ولا يقل أهمية، وهو العامل السياسي الذي يؤكد حق تواجد وعمل الفلسطيني داخل القدس المحتلة وتقديم الخدمات للسكان الفلسطينيين بأيادي وخبرة تقنية فلسطينية، وهذا العمل غير متاح للشركات الفلسطينية الأخرى من الضفة الغربية. وبالتالي تعتبر الشركة رصيد إستراتيجي للاقتصاد الوطني.
وذكر الباحث بأن الأزمة لم تكن مفاجئة، وإنما كان من الممكن توقعها بناء على سلوك دولة الاحتلال الابتزازي، وتنصلها من الاتفاقيات، وانتهاكها للحقوق الفلسطينية، ولجوئها المتواصل لأساليب الابتزاز المالي، حيث بدأت الأزمة باستغلال ما تراكم من ديون سابقة على قطاع الكهرباء الفلسطيني برمته (بما فيها شركة كهرباء القدس)، فقامت إسرائيل بقطع جزئي للكهرباء الموردة لمناطق امتياز الشركة وهددت بتوسيع نطاق القطع إذا لم يتم تسديد الديون. ونشبت أزمة تسديد ديون عام 2018 بين شركة كهرباء القدس والحكومة الفلسطينية، ودافع كل طرف عن مسؤولياته المالية تجاه الآخر. في النهاية تم التوصل الى اتفاق بأن تقوم شركة كهرباء القدس بتسديد المبالغ المستحقة آنيا، وأن يتم دفع الديون المتراكمة بواقع 48 دفعة، وبالمقابل أن تقوم السلطة بتحمل تكلفة المخيمات وتكلفة دعم سعر الكهرباء. لكن في شهر أيلول 2019، صعد الاحتلال من ابتزازه حول نيته قطع الكهرباء عن الضفة الغربية بما فيها المناطق التي تغطيها خدمات شركة كهرباء القدس، وبذلك نشبت أزمة جديدة حول الديون المتراكمة، حيث وصلت الديون على قطاع الكهرباء بشكل عام إلى أكثر من 1.7 مليار شيكل بالاستناد الى ما نشرته شركة الكهرباء الإسرائيلية. اعتبارا من شهر تشرين أول تم قطع الكهرباء عن 23 خطا تابع لشركة كهرباء القدس بواقع ساعتين لكل منطقة، وكانت الشركة توزع الأحمال بين الخطوط لتدارك المشاكل الفنية ولضمان عدم انقطاع التيار عن مشتركيها في مناطق القدس الشرقية تجنبا لتذرع سلطات الاحتلال بأية حجج، ولكن الشركة الإسرائيلية هددت بالقطع الجماعي لجميع الخطوط بحيث لا يسمح لشركة كهرباء القدس بنقل الأحمال من خط الى آخر، أي عقاب جماعي يطال من يدفع الفاتورة ومن لا يدفعها، ما يعيد موضوع شركة كهرباء القدس الى حلبة الأزمة الشاملة لقطاع الطاقة، فمراحل القطع الجديدة تشمل القطع من 3-4 خطوط في آن واحد.
وأشار الباحث إلى أن جميع أجسام وهيئات هذا القطاع تعاني من مشكلة الفاقد الأسود الذي يتمثل في السرقات وعدم دفع الفواتير واستغلال بعض المصانع لوضع المخيمات كونها معفية من الدفع، ويعزى سبب ذلك الى ضعف الولاء للمصلحة العامة لدى البعض، وعدم إنفاذ القوانين وتطبيق عقوبات غير رادعة، فحل هذه المعضلة قد يؤدي الى تحسن الجباية ووقف جزء هام من نزيف الديون المتراكمة، وخاصة أن هذا الفاقد هو السبب الرئيس في تراكم هذه الديون عبر الزمن.
بدوره أشار ملحم في مداخلته إلى بعض التعديلات على الأرقام المقدمة في الورقة فيما يتعلق بنسب توزيع استهلاك الكهرباء حسب الفئة المستهلكة، حيث أن 5% منها للاستهلاك المصنف صناعي، و60% للسكني، و16% للتجاري. وفيما يتعلق بقضية صافي الإقراض، بحسب رأي ملحم، فإنه دون أساس حسابي علمي متفق عليه وإنما تخضع لإملاء الشركة الإسرائيلية وتقديرها. وقال أن فاتورة قطاع غزة الشهرية وحدها تصل 40 مليون شيكل، 35 مليون شيكل شهرياً تسدد عن شركات الكهرباء العاملة في الضفة الغربية عدا شركة كهرباء القدس. وأوضح ملحم أن مبالغ الديون المتراكمة على شركة القدس بحسب تقدير السلطة الفلسطينية حوالي 1,300 مليون شيكل، تم الاتفاق على تجميد مبلغ 636 مليون شيكل، أي أن ما يتبقى من الدين هو 700 مليون شيكل، وهو مختلف عما تدعيه شركة الكهرباء الإسرائيلية. أما عن مصادر هذا الدين فهي متنوعة بين، عدم الالتزام بالدفع، السرقات، والفاقد.
فيما أشار العمري إلى أن هنالك مشكلة أساسية تتعلق بالسرقات وضعت الشركة في أزمة يصعب حلها. وأكد على أن الحكومة مجبرة على البدء بإدارة الوضع في المخيمات لإجبار المنشآت الصناعية والتجارية التي اتخذت من المخيمات مقرا لها حتى تتهرب من دفع فواتير الكهرباء على دفع فواتيرها. كذلك على وزارة المالية حل المشكلة الحالية من خلال دفع المبالغ المالية المستحقة للشركة القطرية الإسرائيلية لتجنب انقطاع الكهرباء، وبعدها ستقوم شركة كهرباء القدس بتسديدها للحكومة، فقطع الكهرباء هو عقاب جماعي سياسي. وأكد العمري على أهمية الاستمرار في دعم الاستهلاك المنزلي للمخيمات وعدم المساس بحقوقها، من جانب آخر، شدد على ضرورة التوافق على حل لمشكلة تراكم الديون من خلال معالجة القضايا العالقة الأخرى وأهمها وجود قوانين رادعة وقضاء عادل لمن يستغلون خدمات الشركة بشكل غير قانوني. وخاصة أن شركة كهرباء القدس مؤسسة وطنية مقدسية ولها انجازات كبيرة، وأن تراجع أوضاعها المالية سيؤثر على استثمارات وأداء الشركة.
من جانبه، قال طهبوب، إن دور مجلس تنظيم قطاع الكهرباء، تشجيع الاستثمار في قطاع الطاقة الكهربائية من خلال ضمان المنافسة ومنع الاحتكار. من أجل ذلك يقوم المجلس بأمور مثل تدقيق مستحقات الشركات لدى الحكومة، والاهتمام بزيادة الإنتاج المحلي من الكهرباء سواء من مصادر متجددة أو تقليدية. وتحدث أيضاً عن أنواع الدعم الحكومي المقدمة لقطاع الكهرباء مثل دعم التعرفة، ودعم خط الأردن، ودعم المواد، وخصم الديون، وغيرها. وفيما يتعلق بالنسبة للعقوبات على المتخلفين عن الدفع، أشار طهبوب إلى أن نسبة تحصيل شركة كهرباء القدس وصلت إلى 95% من المبيعات وأن المجلس ليس بصدد فرض عقوبات إضافية في ظل هذه النسبة.
وقدم عدد من المشاركين مداخلات لتوضيح الأرقام والمعلومات المتشعبة حول هذا القطاع ، بينهم عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عزام الأحمد، الذي أشار إلى تشكيل لجنة متابعة من أعضاء التنفيذية والتي قدمت توصيات، من بينها أنه يجب آلا تعرض قضية إعفاء المخيمات على أنها المتسبب في الأزمة وإنما يوصي بأنه على الحكومة تسديد الديون على الاستهلاك المنزلي في المخيمات، مع دعوة أصحاب المنشآت التجارية والمصانع لعدم استغلال المخيمات، إلى جانب تشكيل لجنة مكونة من دائرة شؤون اللاجئين واللجان الشعبية في المخيمات، تدرس الواقع وتقدم توصيات حول كيفية استمرار تحمل الحكومة لهذه المسؤولية.
ومن جانبه، قال باسم نزال من وزارة المالية الفلسطينية أنه يجب إعادة النقاش حول طبيعة هذه الديون وأسبابها والتوافق على المبالغ المختلف عليها مع شركة كهرباء القدس، وأكد على أن المخيمات تشكل جزءاً من هذه المشكلة ولكنها ليست المشكلة الرئيسية، وخاصة أن وزارة المالية تقوم بالتسديد عنها.
كما تطرق المستشار الاقتصادي لرئاسة الوزراء شاكر خليل أنه يجب على شركة كهرباء القدس تحسين كفاءتها الادارية، مع التأكيد على أن هناك مشكلة كبيرة في قطاع الكهرباء ويجب البحث عن حل لها.
وأكد عضو اللجنة التنفيذية ووزير شؤون القدس سابقاً عدنان الحسيني على ضرورة التعاطف مع شركة كهرباء القدس، وذكر بعض الإنجازات التي تقدمها، وركز على أهمية تواجدها وعملها في القدس والذي يخدم أغراض سياسية وسكانية للفلسطينيين.
وشدد عاطف علاونة على ضرورة عدم التشكيك بالأرقام وخاصة في ظل وجود موازنات مدققة، ومجالس إدارة تتابع عمل الشركات، وأكد على أن مشكلة الأرقام والتوافق عليها مسألة يمكن حلها بسهولة، وطالب بضرورة التشديد على الأنظمة والقوانين والتزام الهيئات المحلية بدفع فواتير الكهرباء.
كما أكد وزير الحكم المحلي السابق حسين الأعرج، على أن مشكلة الكهرباء هي مشكلة قطاع بأكمله وأن حلها يتداخل مع حل مشاكل أخرى في القطاعين العام والخاص، ويجب عدم التساهل في معالجة هذه المشكلة حتى نتجنب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية السلبية.
من جانبه، أشار الدكتور عبد الفتاح أبو الشكر إلى أن قرار إعفاء المخيمات من دفع فاتورة الكهرباء إنما جاء لمساعدة الفقراء، لكن يستفيد منه اليوم غير الفقراء في المخيمات، بينما يعاني الفقراء في تجمعات سكانية أخرى، وقرار إعادة تقييم هذا القرار يتطلب أخذ العدالة الاجتماعية بعين الاعتبار.
وأشار بسام الصالحي، إلى أن علاج الديون المتراكمة على المخيمات يكون بداية بتوضيح الملف الخاص بهذا الجزء والمتعلق بالمبالغ المستحقة بين شركة كهرباء محافظة القدس ووزارة المالية. كما يجب الحيلولة دون انقطاع التيار الكهربائي عن الضفة والقدس وهذا دور الحكومة بشكل عاجل، لأن العواقب الاجتماعية والسياسية كبيرة جداً. كما أن استخدام معلومات غير صحيحة تضر بسمعة شركة كهرباء القدس أمر يجب التراجع عنه كمنهج في التعامل مع قضية أزمة الكهرباء.
كذلك أجمع عدد من الحاضرين على أنه يلزم تكليف خبراء ماليين لإيجاد الحلول للأزمة المالية التي تعاني منها الشركة في ظل الظروف الحالية في فلسطين، بالأخص الأداء المالي للشركة وتداعيات عدم الدفع الذي يؤثر على أداء الشركة بالإضافة إلى نسبة الفاقد والسرقات وضعف القضاء. بينما رأى آخرون أن المشكلة لا تكمن في شركة كهرباء القدس إنما هي معضلة قانونية، تشريعية، إدارية، ومالية.