جلبون (جنين)-وفا- جميل ضبابات-تدور الرحى عكس عقارب الساعة أمام سهام أبو الرب (52 عاما) التي تعود بذاكرتها إلى عقد من الزمان لتشرح قصة حجارة سوداء ذاع صيتها في بلدتها.
فقبل عشر سنوات أحضر زوجها غالب أبو الرب (61 عاما) الحجرين من أطراف البلدة ونحت منهما تلك الرحى.
والرحى التي صنعها سكان البلدة تاريخيا هي قطعتان من الحجر الأسود الصلب يوجد في القطعة العليا مدخل مفرغ لوضع الحبوب ومقبض خشبي لتحريكها لتدور حول محورها.
وصناعة الرحى، مهنة قديمة في البلدة التي تقع في أقصى أطراف الضفة الغربية الشمالية الشرقية، واشتهرت بحجارتها السوداء التي قذفها بركان ثار في المنطقة يعتقد السكان أنه حدث قبل آلاف السنين هنا.
ففي محيط جبلي تمتد السهول ذات التربة الحمراء أمامه، تظهر الحجارة السوداء علامة فارقة في فسيفساء الألوان التي تغلب على حجارة المنطقة.
وأبو الرب سيدة فلسطينية تقوم بالأعمال الكلاسيكية مثل رعاية الأحفاد وإعداد الطعام في منزل ريفي يغلب عليه الهدوء، ومن ضمن الأعمال اليومية التي تكررت في الماضي كانت أبو الرب تستخدم تلك الرحى للحصول على جريش القمح والبرغل والعدس مثل نساء فلسطينيات كثيرات.
مهنة صناعة الرحى أو ما يطلق عليها محليا جاروشة، وهي واحدة من أقدم الصناعات عبر التاريخ في فلسطين في طريقها الى الاندثار نهائيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
وقالت سهام، إنها تجرش اليوم أقل من كيلوغرام واحد من القمح المخزن في المنزل، ستقدمها لاحقا لطيور حجل محجوزة في قن في ساحة خلفية للمنزل.
وأخرجت الجاروشة بعد سنتين من ركنها جانبا في المنزل في محاولة من آل أبو الرب لبث الحياة ولو مؤقتا في مشهد لا يعدو كونه أكثر من تمثيلي.
وكانت هذه الرحى وهي واحدة من اثنتين تحتفظ بهما العائلة تستخدم في طحن الحبوب المعدة للاستخدام البشري حتى سنوات قليلة مضت، قبل أن تصبح جزءا من ديكور المنزل.
قال غالب ابو الرب وهو زوج سهام وواحد من عدد قليل من الرجال في الأرض الفلسطينية يستطيع نحت هذه الحجارة لتأخذ شكل الجاروشة، ان المهنة" اختفت تقريبا".
وعندما سئل بعض سكان البلدة عن واحد من الرجال المشهورين في البلدة كان ينحت تلك الحجارة طيلة عقود طويلة من حياته، قيل انه لم يعد يقوى على مواصلة هذه المهنة.
في حياته الممتدة على خمسة عقود نحت غالب نحو عشر جواريش، لكنه يقول إن عددا قليلا من الرجال نحتوا من حجارة البلدة البازلتية السوداء أعدادا كبيرة من الرحى الصلبة.
والرحى في جلبون متفاوتة الأحجام والأوزان كمان تظهر.
يقول غالب ان وزنها يقترب من الـ20 كيلوغراما، وتقول زوجته انها تدور بسلالة بين يديها.
وفعليا تدور الرحى التي تطحن الحبوب كدولاب لا يتوقف عن العمل.
يتكرر المشهد في منازل أخرى في جلبون.
في اول عقدين من حياة نعيمة إبراهيم (70 عاما) اقتنت عائلتها عدة رحى كانت تستخدمها لجرش الحبوب بشكل يومي.
اليوم تستخدم إبراهيم اخر رحى في منزلها التي نحتها صانع جواريش مشهور من البلدة قبل عقد.
وتقول ابراهيم انها لا تجرش الحبوب هذه الأيام إلا نادرا.
واليوم ستحصل على حفنات قليلة من البرغل (قمح منقوع بالماء ومجفف مشهور في بلاد الشام).
وتدور الرحى بسلاسة ايضا عندما تحرك إبراهيم المقبض الخشبي.
وعلى عكس الآلة الميكانيكية فكلما زادت سرعة الدوران يخفت صوت الرحى عندما يصطك الحجرين ببعضهما البعض.
وعلى ابراهيم ان تلقم الجحرين القمح كلما قاربت الحبوب على النفاد.
ومن هنا تبدأ الرحلة الفعلية لحبة القمح قبل ان تدخل في صناعة التبولة او حبات الكبة.
لقد حازت الرحى عمليا على اهتمام الباحثين والمستشرقين الذين امضوا سنوات طويلة في دراسة الحجر الفلسطيني.
في نهاية القرن 19 وصل الباحث والمستشرق الألماني الشهير جوستاف دالمان إلى فلسطين التاريخية وكان جزء من انتاجه التوثيقي يستعرض فيه أهمية الرحى في حياة الفلسطينيين عبر التاريخ.
في العام 1902 نشر دالمان ورقة بحث قصيرة في اللغة الألمانية بعنوان (الطحن في فلسطين القديمة والحديثة) ترجمت في السنوات القليلة الماضية إلى اللغة الانجليزية لفت فيها الانتباه الى وجود الجواريش في حياة الفلسطينيين عبر التاريخ.
هنا في جلبون التي اشتهرت حتى عقود مضت بزراعة القمح والحبوب الموسمية الاخرى كان مركز صناعة هذه الرحى.
واليوم لم تعد الرحى في منزل غالب ابو الرب سوى جزء من الديكور المنزلي.
وقال الرجل "الحاجة اليها لم تعد ضرورية".
وعندما طلب منه عرضها أمام مجموعة من الضيوف استخرجها من بين نباتات الزينة التي تزين ساحة المنزل الأمامية.
قد تستغرق صناعة الرحى الواحدة من ابو الرب أسبوعا كاملا كما يقول، فهو يقوم بالنحت والقشر والتشكيل الهندسي قبل ان تخرج بشكلها النهائي وتتحول من حجر مهمل إلى أداة عرفها التاريخ بأنها أولى أدوات التكنولوجيا في الصناعة.
واستعرض بين يديه أدوات حديدية يستخدمها في النحت والتشكيل.
إنها أيضا شكل من أشكال الفنون القديمة التي وجدت طريقها الى الحاضر الفلسطيني كجزء من تراث اندثر.
في منزل نعيمة إبراهيم أمكن قياس الرحى فهي تتمتع بقطر طوله 30 سم، وعرض 7 سم للدفة العليا، و9 سم للدفة السفلى.
والقياس يختلف من رحى لأخرى.
في الموقع الذي يذهب إليه غالب لقلب الأحجار قرب القرية ثمة ما يشير تقريبا إلى أن المكان نبش على مدى عقود طويلة للحصول على هذا الحجر لأهداف كثيرة منها بناء أحواض الحدائق المنزلية.
في فلسطين التاريخية تنتشر بؤر استخراج الحجارة الصلبة من الشمال حتى أقصى الجنوب.
منطقة جنين ذاتها واحدة من البؤر المهمة لتجارة الحجارة.
وحسب اتحاد صناعة الحجر والرخام فإن صناعة الحجر في فلسطين يساهم في (4.5%) من إجمالي الناتج القومي. وهذه الصناعة توفر آلاف فرص العمل حيث تشغل اكثر من 20000 فرصة عمل.
وينتج سنويا ما يعادل 16 مليون متر مربع تباع في الأسواق الفلسطينية في الأسواق المحلية والخارجية، في اكثر من 65 دولة ويقدر العائد السنوي لهذه الصناعة بحوالي 700 مليون دولار، كما يشير موقع الاتحاد في الشبكة العنكبوتية.
في العام 2009 انشأ الفلسطينيون مركز الحجر والرخام في جامعة بوليتكنيك فلسطين في الخليل، وهي بؤرة مهمة لاستخراج الحجارة والتجارة بها.
وهو أول مركز متخصص في هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط، ويعنى بصناعة الحجر والرخام ويقدم الخدمات الاستشارية لهذا القطاع.
وفي هذا المركز أسست مكتبة الحجر الفلسطيني، وتضم نماذج للأصناف الرئيسة للحجارة ويحمل كل منها كودا خاصا.
وقال المهندس جواد الحاج وهو مدير المركز "لدينا في المكتبة 50 صنفا من الحجارة". بالنسبة للحاج فإن العمل على تصنيف حجارة فلسطين ما زال جاريا من الشمال حتى الجنوب.
على الصعيد العالمي هناك حجر القدس، وهو توصيف عالمي كرسته الموسوعات العلمية كوصف يطلق على أنواع مختلفة من الحجر الجيري الذي استخدم في بناء المباني التاريخية في القدس.
أما حجر جلبون الأسود فهو معروف سواء بقسوته أو هشاشته لكل أبناء البلدة.
في الموقع الذي يقلب فيه أبو الرب الحجارة أمكن معرفة الحجارة القاسية من الهشة من رنة الحجر عند ضربة بالشاكوش. فالرنة تحدد مستقبلة فيما إذا كان سيهمل ويظل جزءا من تاريخ البراكين، او سيصبح جزءا من المستقبل.
ويقول غالب وهو يقلب واحدا من الحجارة "من دقة واحدة استطيع معرفة الحجر المناسب ليصبح جاروشة".