بيروت (رويترز) - تسعى بنوك لبنان جاهدة لجلب دولارات بينما تسعى البلاد جاهدة للحفاظ على نظام ربط الليرة بالعملة الأمريكية القائم منذ عشرين عاما، بعرض عوائد مرتفعة على الزبائن المستعدين لتحويل عملتهم الصعبة إلى ودائع طويلة الأجل بالعملة المحلية.
وهذه إحدى العلامات على تصميم لبنان على الحفاظ على الاستقرار النقدي، وسط تحذيرات لقادة سياسيين من أزمة اقتصادية، وهو ما أطلق شائعات دفعت المصرف المركزي إلى تقديم تطمينات متكررة بشأن متانة الربط.
لكن أسعار الفائدة المرتفعة التي وضعها المصرف المركزي لضمان استمرار تدفق الأموال إلى البنوك، تشكل مخاطر متزايدة داخل النظام المالي وتضغط على اقتصاد متباطئ بالفعل. ويأتي كل ذلك في وقت تتجدد فيه الضبابية السياسية، مع استمرار البلاد بدون حكومة لما يقرب من ثلاثة أشهر.
ومع انخفاض النمو، وتضرر المصادر التقليدية للنقد الأجنبي، وهي السياحة والعقارات والاستثمار الأجنبي، جراء سنوات من التوتر الإقليمي، يعتمد لبنان الآن بشكل متزايد على مليارات الدولارات التي يودعها اللبنانيون المغتربون في البنوك المحلية.
وتشتري البنوك الدين الحكومي، الذي يمول المديونية العامة الضخمة والعجز في البلاد.
وهناك اتفاق عريض على أن لبنان، ثالث أكثر الدول مديونية في العالم، يحتاج إلى إصلاح مالي عاجل لمساعدة الاقتصاد وتقليص الاعتماد على عمليات البنك المركزي، التي يصفها صندوق النقد الدولي بأنها غير تقليدية.
لكن منذ إجراء الانتخابات البرلمانية في مايو أيار، أخفق السياسيون في تشكيل حكومة يمكنها أن تتغلب على العجز وتعزز الثقة في النظام المالي وتطلق تمويلات من المانحين بمليارات الدولارات.
والتركيز على أسعار الفائدة له تكلفته.
وقال رائد خوري وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال لرويترز الشهر الماضي، إن أولوية المصرف المركزي حاليا تتمثل في رفع أسعار الفائدة لجلب أموال بالعملة الأجنبية إلى لبنان، حتى تتمكن البلاد من الحفاظ على استقرار الليرة، الذي يأتي في مقدمة الأولويات.
وأضاف أن هذا هو السبب وراء الاستقرار النقدي والثقة في لبنان، لكن تلك العوامل لم تأت بتكلفة منخفضة، وإنما كانت التكلفة على الاقتصاد مرتفعة.
ويشعر اللبنانيون العاديون بتأثيرات ضعف الاقتصاد، فالإقراض منخفض، ونشاط الشركات يتراجع مع هبوط الأسعار في القطاع العقاري، الذي كان في السابق أحد دعائم الاقتصاد.
وقال صندوق النقد الدولي إن معدلات النمو السنوي هبطت إلى ما بين واحد إلى إثنين بالمئة، من ثمانية إلى عشرة بالمئة في الأربع سنوات التي سبقت اندلاع الحرب في سوريا، وإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت أكثر من 150 بالمئة في نهاية 2017.
والمرة السابقة التي رفع فيها مصرف لبنان المركزي أسعار الفائدة كانت في نهاية 2017، حينما زادها بمقدار نقطتين مئويتين ردا على الأزمة التي فجرتها استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، والتي عدل عنها في وقت لاحق.
لكن منذ حوالي شهرين، بدأت البنوك تتصل بعملاء وتعرض عليهم تحويل ما لديهم من عملة صعبة، داخل البلاد أو خارجها، إلى ودائع بالليرة لأجل خمس سنوات بفائدة تصل إلى 15 في المئة.
وهناك عروض أخرى علمت بها رويترز، من بينها فائدة عشرة في المئة على ودائع لأجل عام، و11 في المئة لأجل عامين، على أن يتراوح الحد الأدنى للودائع بين 20 ألف و50 ألف دولار.
وبلغ المتوسط المرجح لسعر الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية 6.7 بالمئة في يونيو حزيران، وهو أعلى مستوى منذ ديسمبر كانون الأول 2009. وبلغ المتوسط المرجح لسعر الفائدة على الودائع الدولارية 4.1 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ فبراير شباط 2008.
وقال مروان بركات كبير الخبراء الاقتصاديين لدى بنك عودة إنه منذ أزمة الحريري، زاد متوسط أجل الودائع بالليرة من 40 يوما في أكتوبر تشرين الثاني إلى 120 يوما الآن.
وتقوم البنوك بتحويل أموال العملاء إلى العملة المحلية، وتُودع الدولارات لدى المصرف المركزي، الذي يجري بدوره عمليات معقدة ليعطي البنوك في وقت لاحق عوائد أكثر جاذبية.
وقال مروان ميخائيل رئيس البحوث لدى بلوم إنفست ”هناك الآن منافسة حادة بين البنوك لجذب ودائع.
”يحاول المصرف المركزي امتصاص كل الدولارات في السوق“.
لكن الاعتماد المتزايد على الودائع المصرفية لتمويل الحكومة يجعل لبنان ومصارفه أكثر تأثرا بالصدمات السياسية.
وقال توفيق كسبار، وهو خبير اقتصادي ومستشار سابق بصندوق النقد الدولي في واشنطن، ”أصبح الوضع في البنوك هشا، وأكثر تأثرا بوضع القطاع العام“، مضيفا أن نصف الميزانية العمومية للبنوك هى ودائع لدى المصرف المركزي.
وتابع كسبار ”ثلثا ميزانياتها العمومية قروض للقطاع العام، وهو تحديدا المصرف المركزي والحكومة، كما تظهر أذون الخزانة.
وكتب كسبار تقريرا العام الماضي قال فيه إن سياسة المصرف المركزي في عرض أسعار فائدة مرتفعة على الدولارات أسفرت عن ”خسائر متزايدة“ له و“صافي احتياطيات سلبي“.
وقال كسبار لرويترز إن حجم تلك الخسائر لم يُعلن عنه ”حيث لم ينشر المصرف المركزي بيانات أرباحه وخسائره منذ 2002“.
وفي تحرك غير معتاد، رد مصرف لبنان المركزي على التقرير، وقال إن سياسته لأسعار الفائدة متماشية مع حجم المخاطر في البلاد. وفيما يتعلق بعدم نشر تقاريره السنوية، قال المصرف إنه مطلوب منه سنويا رفع تقرير بميزانيته العمومية وحسابات الأرباح والخسائر إلى وزارة المالية، مضيفا أنه يواصل تحقيق أرباح كبيرة ومستدامة.
وظهر تأثر لبنان بالصدمات السياسية في نوفمبر تشرين الثاني، حينما استقال الحريري على نحو غير متوقع أثناء زيارة للسعودية، وهو ما أسفر عن تدفق مؤقت لأموال إلى خارج البلاد.
وحُلت الأزمة في غضون اسابيع، حينما سحب الحريري الاستقالة، لكن ربط الليرة بالدولار تعرض لضغوط. وبلغت الأصول الأجنبية للمصرف المركزي، مع استبعاد الذهب، 44.4 مليار دولار في نهاية يوليو تموز، متعافية مما فقدته دفاعا عن الليرة.
وارتفعت تكلفة الاقتراض على اللبنانيين العاديين أيضا منذ بدأ المركزي، الذي يقلقه حجم السيولة بالليرة الداخلة إلى السوق، في أكتوبر تشرين الثاني في النكوص عن برامج الحوافز والدعم، التي استخدمها لسنوات لدعم الإقراض المصرفي للإسكان وقطاعات اقتصادية أخرى.
ورغم ترحيبه بالجهود التي يبذلها المصرف المركزي للحفاظ على تدفقات الودائع في مواجهة ضغوط كثيرة على البلاد، قال صندوق النقد الدولي إن مسار ديون لبنان لا يمكن الاستمرار فيه، وهناك حاجة ملحة لإصلاح مالي كبير.
ويتساءل كثيرون في لبنان لماذا لا ينًحي السياسيون خلافاتهم جانبا لوضع الاقتصاد على أسس أكثر متانة.
وقال كسبار ”إذا استمرت الأمور على هذا النحو، سنصل في نهاية المطاف إلى أزمة مالية“.