دولة الانتاج والفرصة القادمة-بقلم الدكتور سعيد صبري

تاريخ النشر
دولة الانتاج والفرصة القادمة-بقلم الدكتور سعيد صبري
الدكتور سعيد صبري، مستشار اقتصادي دولى – شريك إقليمي وممثل لصندوق فاستر كابتل - دبي

بقلم: الدكتور سعيد صبري، مستشار اقتصادي دولى – شريك إقليمي وممثل لصندوق فاستر كابتل - دبي

دون أدنى شك أنها بداية عام مرهقة جدا... العالم برمته استوعب هذه الجائحة الفيروسية وكل الضرر الذي أحدثه فيروس كورونا، ودون شك أن التباين واضح بين دولة وأخرى في التعاطي والتعامل. وبما ان وطأة هذا الفيروس قد خفّت وتم فهمه بشكل أفضل من البدايات، لا أقول بأنه تم التأقلم معه، لأنه من المبكّر جداً وصف هذه الحالة بالتأقلم، وإنما أقول بأن الإجراءات الوقائية والتي تهدف للحماية والحد من خطر هذا الفيروس باتت مفهومة ومقدّرة.

نتفهّم ضغوطات الأزمة الصحية التي تؤثّر على أغلب دول العالم، ونعي حجم التقليص في الأعمال التجارية على كافة المستويات والقطاعات، والجميع يعمل بطاقته القصوى لخدمة المجتمع والوطن لتجاوز هذه الأزمة القاسية. إنه اختبارٌ حضاريّ من المستوى الأول، فحضارة الأمم تُقاس بتعاملها مع الأزمات والتحديات الكبرى، ونموذج التحدي والتضامن والتكافل بين كلا القطاعين: العام والخاص وهو مثال يحتذى به ويشكّل نموذجا من الشراكة التكاملية كونها أثبتت جدارتها في ظل هذه الأزمة وأزمات سابقة وخرجنا منها أقوياء شامخين.

ولكن هذه الجائحة التي عصفت بالعالم إن دلّت على شيء فقد دلّت على أنه من الواجب أن تقوم الحكومة بالاعتماد على نفسها أولاً ولمدة طويلة، قبل أن يستطيع أحد من الدول الشقيقة والصديقة بمد يد العون والمساعدة لها، وأن تقوم بإنتاج حاجياتها الأساسية على الأقل وتصدير الباقي. 

فالدولة يجب أن يكون لها ما تعطي بقدر ما تحتاج لأخذه، وإلا فإن الميزان التجاري لن يكون في صالحها، ويتبع ذلك ما يتبع من إختلالات مالية ونقدية وإقتصادية وسياسية، كتشجيع الاستثمار المحلي كبديل عن عاصفة أو عواصف أخرى فد تضرب الوطن.

وبالتالي، فإن من أهم الدروس والعبر، تغليب المصلحة العامة عن الذاتية، وشفافية القرارات التي يجب أن نستخلصها والتي تتمثل بالعمل كفريق واحد وذي قيادة واحدة ولهدف واحد، ألا وهو المصلحة العامة للوطن وأهل فلسطين أولاً وللأصدقاء ثانياً، وأن تكون رفعة الوطن والمواطن هي الهدف، من خلال التطوير والتحديث الشامل للسياسات والقوانين والإجراءات التي تؤدي الى عودة فلسطين سبّاقة في ميادين شتى: زراعية وإقتصادية وصحية وتعليمية ومعلوماتية وغيرها الكثير.

أما اقتصاديا، فالأصل أن تكون الحكومة قد بدأت بتنفيذ عملية إنقاذ للوضع المالي وذلك بإيجاد آلية لتمويل المنشآت الاقتصادية من خلال "صندوق دعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة" الذي تم الإعلان عنه سابقا، في محاولة للتخفيف من الآثار الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد. 

طامّة كبرى أن تكون الدولة غير مستعدة لذلك، أو غير قادرة على ذلك، فالفريق الوزاري الاقتصادي مطالب بسرعة التحرك قبل فوات الأوان، والانغماس بالعمل ودراسة الخيارات المناسبة للمرحلة المقبلة، وأهم هذه الخيارات ما يتعلق بالتحول الحقيقي نحو دولة الإنتاج؛ دولة صناعة وزراعة واكتفاء ذاتي.

الإنجاز الحكومي حتى الآن في أزمة كورونا لم يكتمل ولم تنه الحكومة ما هو مطلوب منها، فالقادم أصعب وبالغ التعقيد، ومحو آثار كورونا، ليس تحديا بحد ذاته فقط، وإنما معجزة تحتاج إلى جهود مضنية لكي يتم تحقيقها، لكنها ليست بعيدة التحقيق إذا ما استعجلنا العمل في الاتجاه الصحيح فما زلنا ننتظر من الحكومة الفلسطينية العمل على تعزيز الاقتصاد الفلسطيني من خلال ثلاثة أطر مقترحة وذلك بالتركيز على قطاعي الزراعة وتكنولوجيا المعلومات:

البند الأول: الاستراتيجي الذي يعزّز السلسلة الغذائية والأمن الغذائي من خلال تطوير وتحديث الزراعة النباتية والحيوانية ليعطي لفلسطين قوة في اتخاذ قراراتها الداخلية والخارجية. وذلك يتأتى من خلال زيادة الرقعة الزراعية بمنطقة الأغوار الفلسطينية وتنويع المنتوجات باستخدام التقنيات الحديثة التي تزيد الانتاج وتقلّل استهلاك المياه والفاقد منه بأضعاف. كذلك، يجب زيادة الاهتمام بشكل كبير بالثروة الحيوانية البرية منها والمائية وتنويع هذا الإنتاج وصولاً لاكتفاء ذاتي، يجعلنا دولة تأكل مما تنتج وتصدّر الفائض. فالمؤشرات العالمية الاقتصادية تؤشر على الاحتياج العالمي الغذائي في العالم وهنّا لفلسطين فرصة لتلبية الإحتياجين المحلي والعالمي.

البند الثاني: تعزيز السلسلة العنقودية، التصنيع الزراعي، ومن ضمنها تصنيع الأسمدة بأنواع متقدمة، فهو من أهم الخطوات التي يجب أن تترافق مع زيادة الإنتاج، فذلك يؤدي الى زيادة في التخزين، وتصدير الفائض بمردود أحسن وتقليل الإستيراد والطلب على العملة الأجنبية. وهذا الأمر سيكون حاسماً في زيادة التوظيف والاعتماد على المزارعين الفلسطينيين، مما يؤدي الى توزيع الاستثمار والسكان في مختلف مناطق البلد، بدل تركّزها في بعض المدن الرئيسية.

البند الثالث: إن جائحة كورونا قد بيّنت فرصاً هائلة لقطاع الاتصالات وتقنية المعلومات في فلسطين، وهنّا يجب جذب كافة الصناديق الاستثمارية من أجل دعم المبادرات لفلسطينية، وتتمثل بعدة جوانب، أهمها الخدمات الإلكترونية والبنى التحتية اللازمة لذلك. فالاتصالات المتطورة تشكّل البنية التحتية الأساسية للمعلوماتية. وهذا بحد ذاته يشكّل فرصة هائلة للقطاع الخاص. فمع تطور التقنيات تأتي الحاجة لتطوير عوامل أمن وأمان المعلومات المتبادلة وطريقة التعامل معها وحفظها ومداولتها واستخدامها كمنجم بحثي وعلمي وإقتصادي، وحمايتها من الإساءة ومنعها من الوصول الى جهات غير مرغوب بها.

وفي دراسة سابقة عن مجالات تطور تقنية المعلومات في فلسطين، فقد خلصت الدراسة الى الاهتمام بأمن المعلومات ومناجم المعلومات كعناصر نجاح سريعة لتطور القطاع، وهما جزئيتان لا تزالان في غاية الأهمية وتشكّلان فرصاً للقطاع الخاص التقني الفلسطيني، بالإضافة الى توفير الخدمات الإلكترونية محلياً وخارجياً، وجعل فلسطين مصدراً ومركزاً رئيسياً لخدمات التجارة الإلكترونية في العالم، سيما في زمن انترنت الأشياء Internet of things.

ولكون حجم السوق الفلسطينية متواضعاً لمثل هذه الخدمات والمنتوجات، يجب أن يكون المنتج التقني الفلسطيني قابلاً للتصدير ومتوافقاً مع الممارسات الفضلى في العالم ومتفقاً مع المنتوجات العالمية من حيث لغة البرمجة والتوافق مع برامج التشغيل وقواعد المعلومات العالمية. ويمكن النظر في إنشاء جهة مختصة في اختبار وفحص البرمجيات بفلسطين وإعطائها الشهادة اللازمة لإثبات صلاحية المنتج عالمياً، حيث أن هناك عدة طرق لتفعيل ذلك من خلال التعاون والتنسيق مع جهات مختلفة بالعالم.

إن إدارة هذا التغيير الهائل في النهج وفي التعامل مع الوطن والمواطن يتطلب رغبة حقيقية مؤمنة بقدرة الفلسطيني على الوصول الى الإستقلال الحقيقي للبلد، كما أنه بحاجة إلى كفاءات وطنية قادرة على "إدارة التغيير" نحو عالم الانتاج، وحكومات متعاقبة متفقة على أن المواطن ليس فقط مصدر إيراد للخزينة، وإنما هو عنوان التطور، ووجود الحكومة لتمكينه من التطور والتقدم. عندها تتطور البلاد وتتقدم ويصبح النهج الجديد "نجاح الدولة من نجاح مواطنها وليس نجاح المواطن من نجاح حكومته". عندئذ سنقول أن فلسطين بدأت تتشكّل اقتصاديا وهذا الذي سيساعدنا على الاستقلال الاقتصادي والسياسي.

لا شك في أن البشرية تمر بتحدٍ خطير، لم يسبق لها أن مرت به من قبل، ومن الواضح جداً أن فكرة التعايش مع "كورونا" قد تكون الخيار الأخير، لكنه الوحيد المتوافر بين أيدي البشر حالياً، ومهما بذلت الدول من جهود وعزّزت من إمكاناتها الطبية، فإنها لن تستطيع الصمود دون تعاون أفراد المجتمع، ودون التزامهم، وحرصهم على أنفسهم وغيرهم، ودون اتباع الجميع لإرشادات وإجراءات الوقاية.