رام الله-وفا- جعفر صدقة-أخيرا، نجحت القيادة الفلسطينية في انتزاع موافقة إسرائيلية على إعادة تشكيل اللجان الفنية المشتركة بين الجانبين تحت مظلة اللجنة الاقتصادية العليا المشتركة، وهو مطلب فلسطيني على طاولة أي اجتماع مع الإسرائيليين، مباشر أو غير مباشر، وكذلك مع أطراف دولية أخرى، كإطار متفق عليه لبحث أية خلافات في القضايا المالية والاقتصادية.
منذ توقيع اتفاقات اوسلو، وملحقها الاقتصادي بروتوكول باريس وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض، اجتمعت اللجنة الاقتصادية المشتركة، ولجانها الفنية المتخصصة، سبع مرات فقط، إلى أن عطلتها إسرائيل في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين ترفض إسرائيل كل المطالب الفلسطينية، وحتى الاقليمية والدولية، لإعادة تشكيلها وتتصرف في المستحقات الفلسطينية من طرف واحد وكأنها اموال لها تقدمها معونة للجانب الفلسطيني، دون اعطاء الحكومة الفلسطينية اية فرصة لتدقيق هذه الاقتطاعات، الى ان اتخذت قرارا اعتبرته القيادة الفلسطينية تجاوزا لكل الحدود، السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والقانونية، تمثل بقرارها اضافة مبالغ موازية لمدفوعات الحكومة الفلسطينية لعوائل الشهداء والجرحى والاسرى الى قائمة الاقتطاعات التي تقوم بها من طرف واحد، وهو سبب رأت فيه القيادة الفلسطينية تعديا خطيرا يستحق خوض مواجهة واسعة حول كل الخروقات الاسرائيلية، مهما كلف الثمن.
في السنوات الخمس الأخيرة فقط، بلغ إجمالي الاقتطاعات الاسرائيلية من عائدات المقاصة الفلسطينية (وهي ضرائب فلسطينية على الواردات من إسرائيل والخارج، تجبيها اسرائيل بالنيابة عن السلطة الوطنية) تجاوزت 12.5 مليار شيقل، منها 11 مليار شيقل بدل خدمات: كهرباء، ومياه، وتحويلات طبية، وصرف صحي، والمتبقي (حوالي 1.4 مليار شيقل) تحت مسمى عمولة إدارية على الجباية (3%)، وهو مبلغ يغطي ويزيد، عن رواتب موظفي وزارة المالية الاسرائيلية جميعا، بدءا من الوزير وانتهاء بأصغر فرّاش في الوزارة، علما ان عدد الموظفين الاسرائيليين المكلفين بمتابعة المقاصة الفلسطينية وتحصيلها لا يتجاوز أربعة أفراد، وكانت ترسل ورقة بحصيلة المقاصة الى الجانب الفلسطيني في اللحظة الاخيرة من كل شهر وبذيلها سطران او ثلاثة تشير الى الاقتطاعات دون اية تفاصيل او اي تسبيب لتحديد هذه المبالغ، فتجبر الحكومة الفلسطينية على قبولها تحت الضغط وقد دخلت في دائرة استحقاق الرواتب وغيرها من الالتزامات، مع رفض اسرائيل لأية محاولة فلسطينية للبحث في هذه الاقتطاعات وتدقيقها.
شكل القرار الاسرائيلي في شباط الماضي، اقتطاع مخصصات الشهداء والجرحى والاسرى، القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للقيادة الفلسطينية، فالإضافة الى كونه سطوا واضحا اضافيا على ايرادات المقاصة، وهي ضرائب يدفعها المواطن الفلسطيني، فقد شكل محاولة اسرائيلية مكشوفة لوصم النضال الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال بالإرهاب، بل ويشكل مقدمة لهجمة قانونية اسرائيلية في محاكم العالم ضد الفلسطينيين، قيادة وأفرادا ومؤسسات مالية وغير مالية، كان يمكن ان تكون تبعاتها، السياسية والقانونية والمالية، كارثية على الشعب الفلسطيني، ولهذه الاسباب مجتمعة، قررت القيادة الفلسطينية الدخول في مواجهة مع إسرائيل، وحتى مع الولايات المتحدة الأميركية، والدفع بهذه المواجهة الى اقصى درجة باتجاه تفجير الاوضاع في وجه اسرائيل، وكانت آخر حلقات هذه المواجهة إيعاز الرئيس محمود عباس للحكومة البدء بإجراءات عرض كل القضايا العالقة مع اسرائيل للتحكيم امام المحكمة الدائمة للتحكيم في "لاهاي"، بما في ذلك بروتوكول باريس الاقتصادي لمرور سنوات طويلة على انتهاء العمل به قانونيا، ولانفراد اسرائيل بتطبيقه بما يلبي مصالحها دون اي اعتبار للمصالح الفلسطينية، وابلاغ مجتمع المانحين بذلك رسميا عبر رئيس الوزراء محمد اشتية ووزير ماليته شكري بشارة، خلال اجتماع لجنة ارتباط تنسيق المساعدات للشعب الفلسطيني الذي انعقد في نيويورك يومي 25 و26 ايلول الماضي، بحضور ممثلين اسرائيليين.
وفق ما رشح من معلومات، كانت صلابة موقف القيادة الفلسطينية، واصرارها على صرف كامل مستحقات عوائل الشهداء والجرحى والاسرى، وعدم التخلي عنهم وخذلانهم مهما كان الثمن، والتفاف الشعب الفلسطيني حول هذا الموقف، موظفين ومواطنين وقطاع خاص، والالتزام التام بهذا الموقف بمقاطعة كل ما يخص ما يسمى "صفقة القرن" الأميركية، بما في ذلك ورشة البحرين، كل هذا كان حاضرا بقوة في الاجتماع الاخير لرئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ مع وزير المالية الاسرائيلي موشيه كحلون، الخميس الماضي، وأفضى الى رضوخ الجانب الاسرائيلي للمطلب الفلسطيني بإعادة تشكيل اللجان الفنية وتفعيلها فورا لبحث كل القضايا المالية العالقة.
القضايا التي ستكون على طاولة اللجان الفنية المشتركة، اعتبارا من غد الأحد لأول مرة منذ اكثر من عشرين عاما، لا تقتصر على آلية عادلة ومتفق عليها لتدقيق الاقتطاعات الاسرائيلية من المقاصة لأغراض تسديد أثمان الخدمات: الكهرباء، والمياه، والتحويلات الطبية، والصرف الصحي، وإنما تشمل قضايا منسية منذ سنوات طويلة، تمثل سطوا آخر، لكن أكثر فجاجة على المستحقات الفلسطينية تقدر بمجموعها بمليارات الشواقل، كآلية جباية الضرائب على المحروقات وتقدر بأكثر من 2.5 مليار شيقل سنويا، والرسوم الإدارية التي تقتطعها إسرائيل مقابل جمعها للضرائب (3%) وتقدر بحوالي 270 مليون شيقل سنويا، والاضافات التي فرضتها إسرائيل على رسوم معبر الكرامة وتقدر المبالغ المستحقة للجانب الفلسطيني جراء هذه الاضافات حوالي 480 مليون شيقل، والضرائب على المنشآت الواقعة في المنطقة المسماة "ج" وتقدر بحوالي 870 مليون شيقل، والضرائب على الواردات الفلسطينية غير المباشرة (عبر وكلاء إسرائيليين) وتقدر بحوالي 120 مليون شيقل سنويا، والمبالغ الضائعة نتيجة آلية تقاص ضريبة القيمة المضافة، التي تعتمد على اظهار الفاتورة، وتقدر بحوالي 159 مليون شيقل سنويا، والضرائب الضائعة نتيجة عمل شركات الاتصالات الاسرائيلية في السوق الفلسطينية دون ان تدفع الضرائب، والتي يصعب تقديرها، وسرقة إسرائيل للمياه الجوفية الفلسطينية وإعادة بيع الجانب الفلسطيني جزءا منها، والفوائد على الأموال المحتجزة لدى اسرائيل، إضافة إلى إنشاء منطقة تخليص جمركي فلسطينية (بوندد)، وأما وقد فتح هذا الملف بعد مواجهة صعبة دفع الفلسطينيون فيها ما دفعوا من ثمن طوال الاشهر الثمانية الماضية، فإن القيادة الفلسطينية ترى انه آن الاوان لوضع حد لهذا النهب الاسرائيلي للأموال الفلسطينية، مرة واحدة والى الأبد.
لقد جاء هذا الانجاز، بانتزاع الموافقة الاسرائيلية على اعادة تشكيل اللجان الفنية وتفعيلها كاطار متفق عليه لبحث والبت في كافة القضايا المالية والاقتصادية العالقة، دون أن تتراجع القيادة الفلسطينية عن موقفها الرافض لأي مساس بحقوق الشهداء والجرحى والاسرى، وحقوق عوائلهم.
منذ بداية الأزمة، جاء طرف ثالث الى القيادة الفلسطينية مقترحا، ضمن مقترحات أخرى، أن تتسلم أموال المقاصة مع الابقاء على الاقتطاعات الاسرائيلية الموازية لمدفوعات عوائل الشهداء والجرحى والاسرى موضع نزاع الى ان يتم البت فيه، غير أن القيادة الفلسطينية رفضته بشده في حينه، وأصرت على موقفها الرافض للإجراء الاسرائيلي جملة وتفصيلا، ورغم تسلمها جزءا من المقاصة على دفعتين، إلا أن الموقف من هذه الاقتطاعات لم يتزحزح قيد انملة، مع دخول متغير جديد في غاية الاهمية للقيادة الفلسطينية، وشكل مطلبا دائما لها، تمثل بانتزاع موافقة اسرائيل على وضع كل شيء على الطاولة، وصولا الى حل موافق عليه فلسطينيا لكل القضايا العالقة، بعد مماطلة ورفض الإسرائيليين لأكثر من 20 عاما.
ماليا، وبعد مرور ثمانية أشهر على الأزمة التي طالت آثارها كل مفاصل الحياة الفلسطينية، الاقتصادية والاجتماعية، فإن تحرير أكثر من مليار ونصف المليار شيقل من عائدات المقاصة، ودون التنازل عن الموقف الرسمي المعلن، سيشكل دفعة لوزارة المالية بما يمكنها من إدارة الأزمة بأقل ضرر ممكن، الى حين الوصول إلى حل جذري عبر اللجان الفنية.
لقد تمكنت الحكومة الفلسطينية بصعوبة من ادارة الأزمة حتى نهاية شهر تموز، بأقل من 40% من مواردها، وفقا لموازنة طوارئ تضمنت اجراءات تقشف قاسية، وبالاتفاق حول الضرائب على المحروقات قبل نحو شهرين، والذي سمح بتحرير ملياري شيقل من المقاصة في حينه، تمكنت وزارة المالية من اطالة صلاحية موازنة الطوارئ الى نهاية شهر تشرين الاول الجاري، والآن ستكون قادرة على اطالتها حتى نهاية العام، مع وجود أفق لا بأس به للعودة الى الموازنة العادية مع بداية العام 2020، مع امكانية كبيرة لسداد المتأخرات لمستحقيها من موظفين وموردي السلع والخدمات من القطاع الخاص، وبالتالي التخفيف من وطأة الأزمة على الاقتصاد الفلسطيني عموما.
بالوصول الى هذه النتيجة، فقد شكلت نتائج الاجتماع الأخير لرئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ مع وزير المالية الاسرائيلي، الخميس الماضي، صدى لخطاب الرئيس محمود عباس الاخير في الامم المتحدة، بترديده امام العالم انه لو بقي لدينا قرش واحد لدفعناه لعوائل الشهداء والاسرى والجرحى، وهو صدى تردد ايضا في اجتماع المانحين بخطاب رئيس حكومته محمد اشتية ووزير ماليته شكري بشارة.