د.فراس ملحم- محافظ سلطة النقد الفلسطينية
أثبت الجهاز المصرفي خلال السنوات الماضية، قدرة كبيرة على امتصاص الصدمات، وكانت قدرته استثنائية ولافتة خلال الشهور الثمانية الماضية على مواجهة تحديات لم يعرف لها الواقع الفلسطيني مثيلاً من قبل، وما كان لذلك أن يحصل لولا تاريخ طويل من العمل الجاد والمُخلص، بدأه زملائي محافظو سلطة النقد منذ ربع قرن، ومراكمة لا تتوقف على ما تحقق من عمل دؤوب في بناء الاحتياطيات، وصولاً إلى جهاز مصرفي متين يتمتع بالمناعة، ويحظى بثقة الجمهور، ولعل إقبال المواطنين على إيداع أموالهم ومدخراتهم في المصارف، رغم هول ما جرى ويجري لخير دليل على هذه الثقة.
مجهودنا في التطوير والتحوط لن يتوقف، ونحن نمضي بتطبيق استراتيجية واضحة المعالم لتحقيق مزيد من الاستقرار المالي، وإتاحة تطبيقات إلكترونية وخدمات بنكية متطورة. علمتنا الحرب على غزة، بالرغم من عمق المعاناة، ضرورة توفير خدمات مصرفية وأدوات دفع إلكترونية في ظل ظروف طارئة. لذا فإنّ التحول الرقمي ليس مواكبة للتطور العالمي المتنامي في عالم الخدمات الإلكترونية فحسب، وإنما يمثل ضرورة وطنية وحلولا تقنية للتحديات المتعاظمة.
يحظى الجهاز المصرفي الفلسطيني بسمعة طيبة عالمياً، إذ خلُص تقييم دولي عُرضت نتائجه مؤخراً، وسُلمت نسخة منه إلى سيادة الرئيس، إلى "أن دولة فلسطين تلتزم بالمعايير الدولية الفضلى في مجال الامتثال المصرفي". وشمل التقييم الإجراءات التي تقوم بها سلطة النقد، ووحدة المتابعة المالية والبنوك، للتعرف على المستفيد الحقيقي من العمليات المالية، والإجراءات المُتخذة لتخفيض الاعتماد على التعامل النقدي في تنفيذ المعاملات؛ الأمر الذي يعزز المستوى المرتفع للشفافية في القطاع المصرفي.
وتمتلك البنوك الفلسطينية اليوم -محلية ووافدة- شبكة واسعة من البنوك المراسلة حول العالم، تصل إلى 200 بنك مراسل في كل قارات الكوكب؛ الأمر الذي خلق سلاسة في الحوالات المالية من وإلى دولة فلسطين، وهو ما نعتبره واحدة من المكتسبات الوطنية المُعززة للاقتصاد الوطني ولصمود الفلسطيني على أرضه.
ومنذ بداية هذه الحرب غير المسبوقة على شعبنا، تمكّنا بالعمل الجماعي مع الشركاء، خصوصا مجالس إدارة البنوك وإداراتها التنفيذية من امتصاص الصدمة الناتجة عن شح السيولة لدى المصالح التجارية والصناعية.ولمواجهة ذلك، قمنا بضخ سيولة في السوق من خلال صندوقي استدامة واستدامة+، وساهمنا في توفير سيولة تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من استدامة المالية العامة، واجتهدنا لتخفيف معاناة أهلنا في قطاع غزة نتيجة أزمة شح السيولة، بعد تدمير مباني عدد من البنوك هناك.
ولا يخفى على أحد أننا نواجه اليوم فصلا جديداً من التحديات هو الأكثر خطورة وتعقيداً، ويتمثل بالتهديد بقطع العلاقة المصرفية بين البنوك الفلسطينية والبنكين المراسلين الإسرائيليين، الأمر الذي -إن حصل- فإنه سيضرب عصب الحركة التجارية، وسيحول دون وجود قنوات مصرفية لتسديد أثمان السلع والخدمات من وقود وكهرباء وغيرها التي نشتريها من الجانب الإسرائيلي.
ودون الخوض في احتمالات حصول هذا السيناريو من عدمه، والذي لا نراه مرجحاً لجملة من المؤشرات، أبرزها الموقف الدولي القوي الرافض لأية خطوة متهورة من هذا القبيل، فإننا نؤكد للرأي العام الفلسطيني، أن حصول هذا السيناريو لن يؤثر بشكل مباشر على المراكز المالية للبنوك، ولن يعرض أموال المودعين لأية مخاطر تذكر، فالجهاز المصرفي وسيط في العلاقة التجارية، وليس طرفاً مباشراً فيها، وهو مستقل تماماً عن البنوك الإسرائيلية في تعاملاته مع العالم الخارجي.
وفي الوقت الذي نثق فيه بجهود المستوى السياسي الفلسطيني، وبالمواقف الدولية القوية بأن تتكلل بالنجاح في ضمان استمرار العلاقة المصرفية، فإنني أنتهز هذه الفرصة لأناشد الكل الفلسطيني بضرورة توخي الدقة قبل تناقل أية شائعات أو أخبار غير رسمية حول هذا الأمر. لقد تابعت الكثير من الأخبار والتحليلات حول السيناريوهات المتوقعة في حال الإقدام على خطوة متطرفة لقطع العلاقة المصرفية، وكان أغلبها صائباً، ولكن منشورات أخرى أثارت البلبلة في الشارع الفلسطيني، وكانت من مخيلة أصحابها وبعيدة كل البعد عن الواقع. وبينما نواجه ظروفاً استثنائية بالغة الدقة والتعقيد، لا بد من الحذر الشديد وإسناد كل معلومة إلى مصدر موثوق، كي لا نلحق ضرراً بأنفسنا وباقتصادنا، دون أن نقصد.
وتحقيقاً للشفافية ستواصل سلطة النقد سياستها في وضع الرأي العام في صورة المستجدات، أولاً بأول، وأؤكد أن أبوابنا مفتوحة لأي استيضاح أو استفسار، ونطمئن جمهور المتعاملين مع القطاع المصرفي أن لا خوف على أموالهم، فنحن نعمل للحفاظ عليها، ونأخذ بالاعتبار جميع السيناريوهات المتوقعة.
المصدر: صحيفة القدس