كيف تنظر البنوك المركزية لارتدادات الحرب على غزة على أسعار الفائدة؟

تاريخ النشر
آثار الدمار جراء القصف الإسرائيلي على رفح-تصوير وكالات

غزة-أخبار المال والأعمال- "لا أعرف حقا...ولا أعتقد بأن أي شخص آخر يعرف ذلك!".. هذا ما قاله الكاتب والمؤلف الاقتصادي البارز، مايكل باركين، لـ CNBC عربية، عند سؤاله عن التداعيات المحتملة للحرب على غزة -لا سيما حال توسعها وامتدادها– على المشهد الاقتصادي، وما قد يعنيه تصاعد المخاطر الجيوسياسية بالنسبة لاتجاهات مسؤولي السياسات النقدية في البنوك المركزية حول العالم بشأن أسعار الفائدة، في ظل السيناريوهات التي تهدد أسعار الطاقة والزيادة في التكاليف الناجمة عن الصراع.

تعليق الاستاذ الفخري بجامعة ويسترن أونتاريو الكندية، والذي صدر له عدد من المؤلفات التي حظت بانتشار واسع، يأتي في وقت تُغلِف فيه حالة من "عدم اليقين" الاقتصاد العالمي، بما لها من انعكاسات واسعة تفرض مشهداً ضبابياً على مختلف الأفق والمستويات، وفي ضوء ما تنبأ به من تهديدات مباشرة وغير مباشرة؛ خاصة لما تمثله منطقة الشرق الأوسط من أهمية بالنسبة لإمدادات الطاقة.

حالة الضبابية وسؤال المستقبل القريب الذي من الصعوبة بمكان الإجابة عليه بشكل حاسم، يُعبر عنها بصورة واضحة انقسام محافظي البنوك المركزية حول العالم، بشأن مدى تأثير الارتفاعات المحتملة واسعة المدى  بأسعار النفط -حال توسع الصراع- في إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة.

وهو ما سلطت الضوء عليه صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، في تقرير لها، أظهر اختلاف التقديرات بين محافظي البنوك المركزية حول الكيفية التي سيتم التعامل بها مع "قفزة محتملة" بأسعار الطاقة في حالة ما إن تصاعدت الحرب في غزة.

وقفزت أسعار الغاز الشهر الماضي؛ تزامناً مع مخاوف المستثمرين من تأثر الإمدادات العالمية بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. بينما استطاعت أسعار النفط تجاهل تلك التطورات خلال الشهر.

أسعار الطاقة

المسؤولون في بنك انجلترا وبنك كندا المركزي، عبّروا صراحة عن المخاوف المرتبطة بارتفاع أسعار الطاقة، على تصاعد المخاطر التضخمية، وبما يفرض عليهم معالجة تلك المخاطر.

وفي الثاني من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، وبينما تماشى بنك انجلترا مع التوقعات وأبقى على أسعار الفائدة للاجتماع الثاني على التوالي، بعد رفعها 14 مرة منذ كانون الأول/ ديسمبر 2021، عند 5.25%، فإن محافظ البنك، آندرو بيلي، قد أشار صراحة في اليوم نفسه إلى ما تفرضه الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط من حالة من عدم اليقين، وبالإشارة بشكل خاص إلى المخاطر المرتبطة بارتفاع أسعار الطاقة.

اعتبر بيلي أن تلك التطورات من شأنها أن تسهم في فرض حالة من الغموض وتشكّل تهديداً فيما يخص أسعار الطاقة.. وبينما لم يحدث ذلك بعد "إلا أن المخاطر لا تزال قائمة"، على حد قوله.

كما أدرج بنك انجلترا -في توقعاته للتضخم التي نُشرت أخيراً – التوترات في منطقة الشرق الأوسط والمخاوف المرتبطة بإمدادات الطاقة ضمن "المخاطر" التي تواجه استقرار الأسعار، وذلك في إشارة أخرى لحجم القلق إزاء المخاطر المحتملة.

ويُشار في السياق نفسه إلى التحذيرات الصادرة عن بنك Goldman Sachs من أنه "من الممكن أن يكون للحرب في غزة تأثير كبير على النمو الاقتصادي والتضخم في منطقة اليورو ما لم يتم احتواء ضغوط أسعار الطاقة".

هذا بحسب ما ذكرته محللة الاقتصاد الأوروبي كاتيا فاشكينسكايا في مذكرة بحثية يوم الأربعاء الماضي، ذكرت فيها أن استمرار التصعيد يمكن أن يؤثر على الاقتصادات الأوروبية من خلال تراجع التجارة الإقليمية، وتشديد الظروف المالية، وارتفاع أسعار الطاقة وانخفاض ثقة المستهلك.

محافظ بنك كندا، تيف ماكلم، أيضاً لا يزال يرى أن هنالك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به من أجل كبح جماح التضخم. ويعتقد بأن  "الآثار التالية للصدمات الخاصة بأسعار الطاقة من شأنها أن تكون أكثر صعوبة لجهة السيطرة عليها، في ظل موجة التضخم الأخيرة (..)".

توخي الحذر 

وفي الولايات المتحدة الأميركية، بعد الإبقاء على أسعار الفائدة في نطاق بين 5.25 و5.5%، وفيما تحدث رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفدرالي، جيروم باول، عن ما وصفه بـ "توخي الحذر" حيال مستقبل أسعار الفائدة، فإنه تطرق أيضاً إلى الحرب على غزة، وقال إنه "يحمل مخاطر على الاقتصادات".

وفي السياق، أفادت عضو مجلس الاحتياطي الفدرالي، ليزا كوك، بأن تصاعد التوترات الجيوسياسية "حول العالم" من شأنه مفاقمة النمو الضعيف في كلٍ من الصين وأوروبا بشكل خاص، وعليه فإن تلك التداعيات من شأنها تغيير مسار الاقتصاد الأميركي، وذلك خلال كلمتها في مؤتمر عقده البنك المركزي الإيرلندي، وهي الكلمة التي أشارت خلالها إلى انعكاسات الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط وتصاعد الضغوط التضخمية.

المخاطر الجيوسياسية 

في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، يقلل الخبير الاقتصادي، والذي شغل في وقت سابق منصب خبير اقتصادي أول في قسم الأبحاث في بنك الاحتياطي الفدرالي في سان فرانسيسكو، ميلتون ماركيز، من جدوى موقف نقدي أكثر تشدداً، قائلاً: "لا أرى كيف يمكن أن تحفز المخاطر الجيوسياسية الاحتياطي الفدرالي على الانتقال نحو موقف نقدي أكثر تشدداً.. إذا حدث شيء، فإنه من المرجح أن يتجه نحو التيسير".

ويقول: "إن التوقف المؤقت الذي اتخذه بنك الاحتياطي الفيدرالي بشأن رفع أسعار الفائدة سيستمر، كما أن التغيير التالي في أسعار الفائدة من المرجح أن يكون خفض أسعار الفائدة.. ومع ذلك، قد لا يأتي هذا حتى أواخر العام 2024".

ويفسر ذلك بقوله: "عادة، لا يسعى بنك الاحتياطي الفدرالي إلى إجراء تغييرات في السياسة قبيل الانتخابات الرئاسية لتجنب (التسييس) أكثر من اللازم؛ لذلك قد لا يحدث تغيير السعر إلا بعد الانتخابات"، فيما لم يستبعد أثر حدوث أي تطورات غير متوقعة بطبيعة الحال.

على الجانب الآخر، وفي تعبيرٍ بيّن على الانقسامات بين مسؤولي السياسات النقدية حول تبعات التطورات الجارية، جاءت تصريحات رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، بعد أن أبقى البنك أيضاً على أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماع السياسة النقدية أواخر الشهر الماضي. 

وقالت: إن منطقة اليورو أصبحت اقتصاداً مختلفاً بشكل تام اليوم، مقارنة بما كانت عليه عندما ارتفعت أسعار الطاقة العام الماضي، عندما فطمت دول الاتحاد الأوروبي نفسها عن الواردات الروسية.. ومن شأن ارتفاع أسعار الفائدة وضعف الطلب هذه المرة أن يحد من أي ضغوط على الأسعار صادرة من الشرق الأوسط.

لكنّ عضواً آخر في مجلس إدارة تحديد أسعار الفائدة في المركزي الأوروبي، كان أكثر حذراً، عندما ميّز بين أثر توترات أسواق النفط، التي يمكن تجاهلها بأمان، وصدمة العرض واسعة النطاق الأكثر إشكالية، كما لو حاولت إيران بإغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره ثلث الغاز الطبيعي المسال. ويتم نقل ربع النفط من خلاله، طبقاً لما نقلته عنه الصحيفة البريطانية، في تقريرها المشار إليه.

أسعار النفط

ذكرت الصحيفة أنه "في الوقت الحالي، لا تتوقع الأسواق أن يؤثر الصراع الدائر في الشرق الأوسط على أسعار الفائدة العالمية". كما نقلت عن رئيس قسم الاقتصاد العالمي في بنك بي إن بي باريبا، مارسيلو كارفاليو، قوله إن البنك يتوقع أن يدور سعر النفط عند مستوى 100 دولار لبرميل بالنسبة لخام برنت. وعند هذا السعر، ستظل البنوك المركزية قادرة على تجاوز الصدمة. وفقط في السيناريو المعاكس، حال ارتفعت أسعار النفط نحو 120 دولاراً، قد يبدأ صناع السياسات في الشعور بالقلق.

كما حذرت وكالة فيتش، الجمعة، من سيناريو تعطل إمدادات النفط جراء الصراع في الشرق الأوسط، وبما يتسبب في انخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم، متوقعة في الوقت نفسه انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.4 نقطة مئوية في العام 2024، لكنه سينخفض بنسبة 0.1 نقطة فقط في العام 2025، على الرغم من أن عدم وجود انتعاش كبير يشير إلى أنه قد يكون هناك تأثير معتدل مستمر يتجاوز الصدمة الأولية.

وبينما كانت توقعات الاقتصاد العالمي الصادرة عن فيتش لشهر أيلول/ سبتمبر الماضي، تفترض أن متوسط أسعار النفط يبلغ 75 دولاراً و70 دولاراً للبرميل في عامي 2024 و2025 على التوالي، فإن السيناريو المشار إليه والمرتبط بقيود العرض، قد يدفع إلى وصول متوسط أسعار النفط إلى 120 دولاراً للبرميل في العام 2024 و100 دولار في العام 2025.

وكان البنك الدولي، قد حذّر، نهاية الشهر الماضي، من أن أسعار النفط يمكن أن ترتفع إلى أكثر من 150 دولاراً للبرميل حال تصاعد الصراع في الشرق الأوسط.

ورغم التراجعات الأسبوعية التي تسجلها أسعار النفط أخيراً، تتوقف تلك السيناريوهات على المدى الذي يُمكن أن تتطور فيه الحرب الحالية على قطاع غزة، والمستمرة منذ يوم السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. 

وحتى اتضاح الرؤية يظل السؤال بشأن مدى تأثير تلك المخاطر المرتبطة بالارتفاعات المحتملة بأسعار النفط على السياسات النقدية "سؤالاً صعباً"، طبقاً لتعبير استاذ الاقتصاد بكلية كلية ويليامز بالولايات المتحدة، كنيث كتنر، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية.

يقول الأكاديمي المتخصص في السياسات النقدية للبنوك المركزية: "من الصعب للغاية أن نعرف في هذه المرحلة إلى أي مدى قد تؤثر النتائج السيئة (أو الأسوأ) في منطقة الشرق الأوسط على الإنفاق وغيره من جوانب النشاط الاقتصادي في بقية العالم". 

ويضيف: "الناس بشكل عام لا يحبون عدم اليقين.. يدفع ذلك إلى تأجيل قرارات الاستثمار الكبرى، وما إلى ذلك؛ لذلك من المرجح أن يكون لعدم اليقين تأثير.. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي ظاهرة الـ Flight to Quality  (لجوء المستثمرين إلى الملاذات الآمنة، والأصول عالية الجودة وأكثر أماناً في فترات تقلب الأسواق وعدم الاستقرار) إلى زيادة الطلب على الدولار الأميركي، وقد يؤثر ذلك على أسعار الصرف وتدفقات رأس المال. 

لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن "التأثيرات محدودة للغاية حتى الآن، ولكن بطبيعة الحال سيكون صناع السياسات على دراية كبيرة بالآثار السلبية المترتبة على التداعيات".

يأتي ذلك في وقت يحبس فيه العالم أنفاسه انتظاراً لما سوف يفضي إليه الصراع الراهن. بينما تعاني أسواق الطاقة من تبعات صدمتين في آن واحد؛ الأولى متعلقة بالحرب في أوكرانيا (منذ 24 شباط/ فبراير 2022) والثانية (الحرب على غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي)، وما تثيره تلك المخاطر المتزامنة من تهديدات بخصوص الإمدادات.

الملاذات الآمنة 

وإلى ذلك، يشير مدير تحليلات مخاطر السوق في شركة State Street Corporation في بوسطن، مو تشودري، في تصريحات خاصة لـ CNBC عربية، إلى أن "المخاطر الجيوسياسية قد تؤدي إلى ابتعاد المستثمرين عن الأصول الأكثر خطورة إلى الأصول الأكثر أماناً، وقد يؤدي ذلك إلى انخفاض عوائد الخزانة الأميركية لأكثر من عام واحد (بمعنى أن الطلب على سندات الخزانة الأميركية، التي تُعتبر عادةً من الأصول الآمنة، قد يزيد، مما يؤدي إلى انخفاض عائد هذه السندات)".

ويستطرد: "علاوة على ذلك، قد يتباطأ الناتج المحلي الإجمالي، بما يزيد من خطر حدوث ركود، وبالتالي قد يحث ذلك على تخفيضات محتملة في سعر الفائدة على الأموال الفدرالية أو تباطؤ التشديد الكمي".

لكن في اعتقاده الشخصي، فإن السيناريو المرجح هو أن "معدلات التضخم في الأشهر القليلة المقبلة قد تكون أعلى من المستويات المنخفضة التي شهدناها في الأشهر القليلة الماضية.. وبالتالي، قد يضطر بنك الاحتياطي الفدرالي إلى رفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية مرة أخرى، على الأرجح في اجتماعه في كانون الأول/ ديسمبر 2023".

المصدر: CNBC عربية