تتضافر جهود دول العالم في إطار سعيها للقضاء على الجوع، وتبقى جهودها في معالجة هدر الغذاء، رغم تأثيره السلبي على مكافحة الجوع والاستدامة البيئية والاقتصادية، متواضعة.
يركز الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة 2030 على "القضاء التام على الجوع". يتطلب تحقيق هذا الهدف توفير الغذاء الكافي والمتنوع، والوصول إليه في كل الأوقات، من قبل الجميع، خصوصاً الفئات الضعيفة. يستلزم توفر الغذاء الكافي والآمن تبني أنظمة الزراعة المستدامة بما يشمل دورة الإنتاج والتصنيع والتسويق، ويقتضي اتباع الممارسات الفضلى للحد من هدر الطعام. ويرتبط الوصول للغذاء بمستوى توفر المال اللازم لشرائه، ويقترن بمسار الهدف الأول للتنمية المستدامة، وهو "القضاء على الفقر".
تواجه مكافحة الجوع تحديات متعددة ومتداخلة ومتقلبة بسبب تأثرها الشديد بتداعيات الكوارث الطبيعية والنزاعات وتغير المناخ. فبعد أن رُصِدت نتائج إيجابية في تحقيق هذا الهدف حتى العام 2019، عادت مستويات الجوع إلى الارتفاع الملموس منذ انتشار جائحة "كورونا". في هذا السياق، قدرت بيانات الأمم المتحدة أن حوالى 10% من سكان العالم (حوالى 811 مليون شخص) عانوا من الجوع في العام 2020 مقارنة بـ 8.4% عام 2019، وفي نفس العام ارتفع عدد الأشخاص الذين لم يحصلوا على تغذية كافية في العالم من 320 مليون شخص إلى 2.4 مليار، أي ما يقارب ثلث سكان العالم.
عربياً، أشار تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، إلى استمرار ارتفاع نسب الجوع في العالم العربي مع زيادة بنسبة 91.1% منذ العام 2000.
وفي فلسطين، أظهر المسح المُعد من قبل "ماس" بالشراكة مع منظمة الفاو، أن أكثر من نصف الأُسر الفلسطينية عانت من غياب الأمن الغذائي خلال العام 2020. كما أشار إلى أن 29.9% من سكان فلسطين عانوا من انعدام الأمن الغذائي مقابل 9.5% في العالم، في الفترة 2014- 2016.
في الوقت الذي يعاني حوالى عُشر سكان العالم من الجوع، تتفاقم ظاهرة هدر الغذاء حيث يتم هدر حوالى ثلث الغذاء المنتج لاستهلاك البشر سنوياً وبخسارة مالية تقدر بحوالى 1 تريليون دولار أميركي.
في آذار 2021، نوّه تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن أكثر من 931 مليون طن قد أُهدِر في العالم في 2019 وكان حجم هدر الفرد منها 74 كيلوغراماً.
عربياً، وحسب تقرير منظمة الفاو، وصل حجم الهدر الكلي للدول العربية إلى أكثر من 40 مليون طن في العام 2020، وبلغ حجم هدر الطعام في فلسطين 0.51 مليون طن. وفي معرض مقارنة معدل هدر الفرد العربي للطعام في العام 2020، تصدرت البحرين قائمة الهدر بمعدل 132 كيلوغراماً للفرد الواحد، تلتها العراق، ثم السعودية ولبنان، فاليمن ثم فلسطين التي بلغ معدل هدر الفرد للطعام فيها 101 كيلوغرام في السنة.
يحصل الهدر عبر عدة مراحل: الحصاد والإنتاج، والتسويق والتخزين، وعند المستهلك. يسمى الهدر في المرحلتين الأولى والثانية الفاقد الغذائي، ويسمى الهدر الغذائي عندما يتم من قبل المستهلك. ويتوزع الهدر حسب نوع المنتج، إذ تشكل نسبة هدر الفواكه والخضار 56%، تليها الحبوب 31%، فالأسماك 23%، ثم اللحوم 23%، والحليب ومنتجات الألبان 20%. ويمكن التخفيف من حجم الهدر باتباع الأساليب والسلوكيات المستدامة، بما فيها استخدام التكنولوجيا لضبط درجات الحرارة والرطوبة، واستخدام وسائل النقل والتخزين الجيد والتغليف الفعال.
يترتب على هدر الطعام حرمان الجياع من وصولهم له، فحسب تقديرات الخبراء، يمكن لحجم الهدر في البلدان العربية، والمقدرة قيمته بحوالى 300 مليار دولار، أن يطعم عشرات الملايين فيها.
كما تشير الدراسات إلى أن ما يقارب من 30% من الأراضي في العالم تنتج غذاءً لا يُستهلك (يذهب إلى سلة النفايات). ينجم عن إهدار الغذاء هدر للطاقة المستخدمة في إنتاجه ونقلة وتخزينه، ويتسبب في هدر الماء والبذور والأعلاف، ناهيك عن هدر المال والجهد البشري. يؤول الغذاء المهدور إلى مدافن النفايات فيسهم في زيادة الانبعاثات الغازية بحوالى 8-10%، وهو ما يشكل ثالث أكبر مصدر للغازات المسببة للاحتباس الحراري بعد أميركا والصين. تضر الانبعاثات الغازية بصحة الإنسان، وتوثر سلبياً على المناخ والتربة فتخفض من حجم الإنتاج الغذائي وجودته. باختصار، تعرقل تبعيات هدر الطعام جهود تحقيق الاستدامة بركائزها البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
يصل حجم الهدر ذروته في رمضان، حيث يرتفع بنسبة 50% مقارنه بباقي الأشهر. وعلى الرغم من كونه شهر الصوم والإحساس بالجوعى وترشيد الاستهلاك، إلا أن حجم الإنفاق فيه على الطعام يعتبر الأعلى بين الشهور في العالم.
في هذا السياق، يشكل الهدر غير المسؤول في رمضان حوالى 30% من قيمه الهدر السنوي، وتشير الإحصائيات إلى أن السعودية تحتل المرتبة الأولى في الهدر الذي يكلفها 10.7 مليار دولار سنوياً.
في الإمارات، تصل زيادة الهدر في رمضان إلى 67% على حجم الهدر في بقية الأشهر، ولا يؤكل من الولائم غير 53%، وتشكل الأطعمة 55% من قمامة دبي في رمضان مقارنة بـ 22% في الأشهر الأخرى.
وفي البحرين، تتزايد الفضلات لتصبح 600 طن يومياً أي بنسبة 50% زيادة على المهدور في بقية الأشهر. وبينما تلقي قطر بنصف الطعام المعد يومياً في رمضان، تهدر المغرب ثلث ما يطهى.
وعلى الرغم من شحّ الدراسات حول الحال في فلسطين إلا أن المؤشرات الأولية الصادرة عن بعض البلديات تدل على أن حجم النفايات في رمضان يزيد على بقية الأشهر بنسبة قد تصل إلى 50% أحياناً. ويعتبر هذا رقماً قياسياً، خاصة أن معدل الفقر في فلسطين من الأعلى في العالم، إذ وصلت نسبته في العام 2020 إلى 30%، بينما تعاني أكثر من 68% من الأُسر في قطاع غزة من انعدام الأمن الغذائي.
تساعد حملات التوعية بطرق ترشيد الاستهلاك في التخفيف من ظاهرة الهدر. وتتضمن هذه الطرق التخطيط الأسبوعي للاستهلاك، والشراء على قدر الحاجة، وتجميد فائض الطعام، وتناول الغذاء المتوازن دون إفراط. وتبقى مواجهة جشع الاستهلاك، بحاجة إلى سن قوانين واتخاذ إجراءات أكثر فعالية. في هذا السياق، قامت كوريا الجنوبية بسن قانون يحظر إلقاء الطعام في الزبالة ويستلزم فصلها في البيوت لتدويرها. أسهم هذا القانون ليس فقط في تغيير سلوكيات الاستهلاك، بل رفع حجم تدوير الطعام المهدور من 1.2% في العام 1995 إلى أكثر من 90% توزعت على 30% سماد، و60% أعلاف، و10% وقود حيوي. أما فرنسا فقد نجحت في تخفيض حجم الهدر إلى 1.2% بعد أن سنت في العام 2016 قانوناً يُلزم المطاعم والبقالة بعدم رمي الفائض وتوزيعه على المحتاجين أو بيعه بأسعار مخفضة. وشملت عقوبات المخالفين لهذا القانون دفع غرامة أو السجن. هذا، وتخطط فرنسا لتخفيض حجم الهدر إلى 0.6% مع 2025.
على المستوى العربي، نجحت دولة الإمارات في توفير 16 مليار دولار عن طريق بنك الطعام، الذي أسسته عام 2017 لتجميع فائض الطعام الطازج والمُعلّب وتوزيعه على المحتاجين، من خلال شبكة من المؤسسات الخيرية المحلية والدولية. كما وقّعت اتفاقيات تعاون مع بنوك طعام مماثلة في مصر والسعودية والكويت، ووضعت إستراتيجية لتخفيض قيمة الهدر السنوية بمقدار 15%.
في فلسطين، لم تتجاوز محاولات مكافحة الهدر إصدار مجموعة من الإرشادات والبيانات الموسمية. فهل ستوضع معالجة هذه المعضلة على جدول أولويات الحكومة؟ ومتى ستحظى بانتباه مؤسسات البحث والإعلام؟