رام الله-(وفا)-جعفر صدقة- واجه الاقتصاد الفلسطيني هذا العام وضعا هو الأسوأ على الاطلاق، بإجماع مؤسسات محلية ودولية، في ظل أزمة مالية غير مسبوقة لم تواجهها أية حكومة فلسطينية من قبل، لكن الأسابيع الأخيرة من العام حملت في طياتها بوادر انفراجه قد يبدأ الناس تلمس آثارها في الربع الأول من العام 2022.
خلال اجتماعها في 20 كانون الأول الجاري، اتخذت الحكومة جملة من الإجراءات المالية لمعالجة الأزمة، أو على الأقل التخفيف من تداعياتها على الاقتصاد والمواطنين.
لم تعلن الحكومة تفاصيل هذه الإجراءات، لكن مستشار رئيس الوزراء لشؤون التخطيط وتنسيق المساعدات اسطيفان سلامة، قال إنها تسير في ثلاثة مسارات، أولها يتعلق بإصلاحات داخلية في المالية العامة.
وأوضح سلامة "هناك ثلاثة ملفات تثقل الموازنة لا بد من معالجتها، وهي: فاتورة الرواتب، وصافي الإقراض (مبالغ تقتطعها إسرائيل من أموال المقاصة لتسديد ديون الكهرباء والمياه والصرف الصحي، المستحقة على شركات وهيئات محلية لصالح موردين إسرائيليين)، إضافة إلى ملف التحويلات الطبية، سواء إلى مراكز طبية فلسطينية خاصة، أو لمستشفيات خارج الأراضي الفلسطينية، خاصة إلى المستشفيات الاسرائيلية".
وقال سلامة "هناك 351 ألفا يتلقون رواتب وأشباه رواتب (مخصصات تقاعدية واجتماعية) من الحكومة، وهناك دراسات لما يمكن عمله لخفض هذه الفاتورة، لكن ليس من السهل اتخاذ اجراءات في هذا الموضوع نظرا لتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن في كل الأحوال، لن يتم الاجحاف بحقوق أي موظف أو مواطن".
وأضاف: هذه الإصلاحات مطلوبة، سواء أكان هناك أزمة أم لم تكن. الحديث عن ترشيد وليس تقشف أو تخفيض".
ويخص المسار الثاني في معالجة الأزمة، بحسب مستشار رئيس الوزراء، استعادة الدعم الدولي للخزينة. وقال "كان للرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء محمد اشتية عدة زيارات خارجية، أسفرت عن نتائج ايجابية، ونتوقع أن يبدأ الاتحاد الأوروبي بصرف المساعدات التي خصصها لعامي 2021 و2022 خلال الربع الأول من العام القادم".
ولفت إلى أن الولايات المتحدة استأنفت بالفعل مساعداتها للشعب الفلسطيني، ووافقت على تخصيص حوالي 300 مليون دولار العام الحالي لمشاريع تنموية وانسانية وقطاع الأمن.
وقال سلامة "استئناف الدعم الاميركي المباشر للخزينة مرتبط بنصوص قانونية أقرها الكونغرس، ولا نتوقع عودته قريبا".
أما المسار الثالث، وهو الأهم، فيتركز في حشد الضغط الدولي على إسرائيل لوقف اقتطاعاتها من المقاصة، ومعالجة ملفات مالية أخرى عالقة منذ سنوات، والتزامها بالاتفاقات الثنائية مع السلطة الفلسطينية.
أبرز الملفات العالقة مستحقات فلسطينية لم تحولها إسرائيل للخزينة الفلسطينية منذ سنوات، من فرق الزيادة في ضريبة الخروج عبر الجسور، والضرائب التي تجبيها من المناطق المسماة "ج"، والعمولة "الفاحشة" على جباية جمارك الواردات الفلسطينية في المعابر والمنافذ الحدودية (3%)، والتسرب الناتج عن آلية التقاص الحالية التي تعتمد على إبراز فواتير المقاصة فقط.
وفق وزارة المالية، فإن تسوية الملفات العالقة، توفر نحو 500 مليون دولار سنويا، تضاف إلى نحو 500 مليون دولار أخرى محتجزة، تراكمت منذ 2019 جراء الاقتطاعات غير القانونية مقابل مدفوعات عوائل الشهداء والأسرى والجرحى.
فيما تقدر الحكومة الفلسطينية فارق الاقتطاعات الإسرائيلية مقابل الخدمات بما لا يقل عن 20%، حال تدقيقها.
في المحصلة، فإن هذه المبالغ "الضائعة" (اقتطاعات، وملفات عالقة)، كفيلة بإغلاق كامل العجز في الموازنة الفلسطينية، الذي يبلغ معدله سنويا حوالي مليار دولار، يتوقع أن يرتفع هذا العام إلى 1.4 مليار دولار بسبب الأزمة.
أزمة مختلفة:
منذ قيامها في عام 1994، تمر السلطة الوطنية بأزمة مالية مزمنة، تنخفض وتيرتها حينا وترتفع أحيانا، لكنها تفاقمت بشكل غير مسبوق في العامين الأخيرين، إذ اجتمعت "القرصنة" الاسرائيلية المتصاعدة لأموال المقاصة، مع جائحة "كورونا"، في ظل غياب الدعم الدولي.
وأشار سلامة إلى عدة فروق ميزت الأزمة الحالية عن سابقاتها، وأولها الزيادة المضطردة في الاقتطاعات الإسرائيلية من عائدات المقاصة.
وقال: "الاقتطاعات ليست جديدة، لكنها في ازدياد مستمر، وهذا ليس ضمن الاتفاقات، وتتم بطريقة غير شفافة وبدون تدقيق. نعلم بها من خلال مراسلة قصيرة من المالية الإسرائيلية إلى وزارة المالية الفلسطينية".
وأضاف: الزيادة خلال العامين الماضيين كانت ملحوظة، فنحن لا نتحدث عن مبالغ قليلة، وانما عن 100-150 مليون شيقل شهريا"، تقول اسرائيل إنها توازي مدفوعات الحكومة الفلسطينية لعوائل الشهداء والجرحى والأسرى.
هذه المبالغ تضاف إلى اقتطاعات تتم منذ سنوات، بدل خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي وخدمات طبية، لتتجاوز بمجموعها 200 مليون شيقل، وبلغت في شهر تشرين الثاني الماضي 214 مليونا بحسب رئيس الوزراء محمد اشتية.
توقف الدعم:
حتى عام 2013، كان معدل الدعم المباشر، الذي تتلقاه الخزينة الفلسطينية حوالي مليار دولار، ثلثه تقريبا من الولايات المتحدة، وثلث من الاتحاد الأوروبي، والثلث الأخير من دول عربية أبرزها السعودية.
وقال سلامة "الدعم الأميركي متوقف تماما منذ عام 2018، والدعم العربي تناقص في 2020 حتى توقف بشكل كامل أيضا في 2021، وتبع هذا العام توقف الدعم الأوروبي لأسباب فنية".
وأضاف: من المهم التفريق بين دعم الخزينة من جهة، وهذا توقف بشكل شبه كامل، ودعم المشاريع والدعم الإنساني الذي لم يتأثر تقريبا، بما في ذلك من دول عربية".
ووفق مستشار رئيس الوزراء "نعتبر الدعم الدولي غير مستقر وسيتوقف يوما ما، ونحن بالفعل نتبنى استراتيجية تمكننا مستقبلا من الاستغناء عن الدعم الخارجي للنفقات الجارية (الموازنة) وتوجيهه بالكامل نحو المشاريع التنموية".
وتابع "لكن توقفه في ظل الظروف الراهنة كان له طابع خاص وعمق الأزمة".
المساعدات الأميركية:
العام 2021، شهد استئناف المساعدات الأميركية للشعب الفلسطيني، بعد أن أوقفه الرئيس السابق دونالد ترمب تماما منذ عام 2017، في إطار الضغوط على القيادة الفلسطينية لقبول "صفقة القرن".
حتى الآن، استؤنفت المساعدات للمشاريع التنموية والإنسانية وقطاع الأمن، دون الدعم المباشر للخزينة.
وقال سلامة "الدعم الاميركي بدأ، وهو بازدياد لكن ليس للخزينة أو عبرها".
واضاف: اقتربت قيمة الدعم الأميركي من نصف مليار دولار مساعدات، توزعت على: المشاريع، والأمن، والأونروا، لكن لم يصل سنت واحد للخزينة.
زيادة في النفقات:
مقابل النقص الحاد في الإيرادات نتيجة الاقتطاعات الاسرائيلية من المقاصة وتوقف الدعم الخارجي، فقد ارتفعت نفقات السلطة الوطنية بشكل ملحوظ خلال عامي 2020 و2021، لمواجهة التداعيات الصحية للجائحة.
وقال سلامة "صحيح أن الجباية المحلية ارتفعت، لكنها اقل بكثير من أن توازن النقص الحاد في الإيرادات، والزيادة الملحوظة في المصروفات بسبب جائحة كورونا".
في المحصلة، أضاف سلامة أن "حصيلة كل هذه العوامل أزمة مالية غير مسبوقة، على كافة الصعد الاقتصادية والمالية، وايضا السياسية".
تداعيات مؤلمة:
اضطرت الحكومة الفلسطينية، تحت ضغط الأزمة، إلى دفع رواتب موظفيها بنسبة 75 بالمئة اعتبارا من راتب شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كجزء من خطة لخفض الانفاق تبنتها في اجتماعها الأخير يوم 20 كانون الأول.
الاجراءات المالية للحكومة جاءت بعد أسابيع من تقريرين للأمم المتحدة والبنك الدولي، حذرا فيهما من "تداعيات خطيرة" للأزمة المالية التي تعانيها السلطة الوطنية الفلسطينية.
وقال سلامة إن الحكومة الفلسطينية لن تكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية بحلول نهاية العام الجاري، وهو ما تحقق فعلا، وفي وقت أبكر.
وسجل الاقتصاد الفلسطيني انكماشا بنسبة 11.5 بالمئة في 2020، وهو أسوأ انكماش منذ اجتياح الجيش الإسرائيلي للمدن الفلسطينية في 2002، حين سجل الاقتصاد انكماشا بحوالي 14.5 بالمئة.
وقال البنك الدولي في تقريره، الذي قدمه لاجتماع المانحين في بروكسل في 17 نوفمبر الماضي، ان الاقتصاد الفلسطيني "أظهر بوادر تعافٍ في 2021، لكنه تعافٍ غير مستدام في ظل حالة عدم اليقين بشأن تطورات الجائحة، وأيضا طالما استمرت إسرائيل في اقتطاعاتها من المقاصة".
فيما وصف مكتب منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في القدس، في تقرير قدمه لاجتماع المانحين أيضا، وضع الاقتصاد الفلسطيني بأنه "مريع".
وتقدر مؤسسات دولية ومحلية العجز المالي بنهاية 2021 بحوالي 1.4 مليار دولار.
وقال وزير المالية شكري بشارة في الاجتماع الأخير للمانحين إن الاقتطاعات الإسرائيلية من عائدات المقاصة الفلسطينية مسؤولة عن نصف العجز في الموازنة.
تفاقم الدين العام:
وخلال الأزمة، تفاقم الدين العام بشكل غير مسبوق، سواء النظامي (ويشمل الدين الخارجي والاقتراض من البنوك)، وغير النظامي (التزامات متأخرة على الحكومة للقطاع الخاص وهيئة التقاعد).
ويبلغ الدين الخارجي حوالي 1.4 مليار دولار، فيما تبلغ مديونية الحكومة للبنوك المحلية حوالي 2.4 مليار دولار، فيما تصل المتأخرات المستحقة لموردي السلع والخدمات للحكومة من القطاع الخاص إلى نحو مليار دولار.
يضاف إلى ذلك نحو 1.8 مليار دولار متأخرات مستحقة لهيئة التقاعد، وهي عبارة عن المساهمات التي يفترض ان تحولها وزارة المالية إلى الهيئة بشكل شهري كمستحقات تقاعد للموظفين.
بالإجمال، فإن مديونية الحكومة تتجاوز 6.5 مليار دولار، تعادل ما بين 45 و50 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الفلسطيني.
1000 مشروع:
رغم الأزمة، فقد استمر العمل بعدد لا بأس به من المشاريع "وهي تسير كما هو مخطط لها"، قال سلامة.
واضاف: هناك بعض التباطؤ جراء الجائحة لكن المشاريع التنموية تسير كما هو مخطط لها، في قطاعات مختلفة أبرزها المياه والصرف الصحي والطاقة والزراعة".
وأوضح مستشار رئيس الوزراء أن "هناك نحو ألف مشروع قيد التنفيذ أو على وشك البدء بتنفيذها، يبلغ اجمالي كلفتها أكثر من مليار دولار، 90 بالمئة منها بتمويل خارجي".
وتابع: عقود معظم هذه المشاريع وقعناها (مع دول وجهات مانحة) في 2020، بدأ العمل في جزء منها في 2021، وجزء سيبدأ في 2022.
بوادر انفراجة:
ويتوقع مستشار رئيس الوزراء انفراج الأزمة اعتبارا من شهر مارس/آذار 2022.
وقال "توقعاتنا بأن يكون العام 2022 افضل من سابقه، الذي كان الأسوأ منذ قيام السلطة في 1994، وأن تبدأ الأزمة بالانحسار اعتبارا من شهر آذار، الموعد الذي التزم به الاتحاد الأوروبي لدفع مخصصات 2021 و2022، علما أن هذا لن ينهي الأزمة، وانما يخفف من حدتها".
تطور آخر ينبئ بانفراجة قريبة تتعلق باستئناف الدعم العربي، إذ أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال زيارة الرئيس محمود عباس للجزائر في 5 كانون الأول، عن منحة لفلسطين بمقدار 100 مليون دولار، تلا ذلك، 21 من الشهر ذاته، اعلان الحكومة العراقية عن منحة أخرى بأكثر من 5 ملايين دولار.
في نفس الوقت (الربع الاول من العام 2022)، تتوقع الحكومة ارتفاع الإيرادات المحلية، نتيجة بعض التعافي في الاقتصاد من المستويات المنخفضة التي بلغها في عامي 2020 و2021.
وقال سلامة "هذه الاسباب الثلاثة المؤكِدة لتوقعاتنا بانفراجه بنهاية الربع الأول من العام المقبل".