الأرضية التي غطيت لإعادة كشفها

تاريخ النشر
الرئيس محمود عباس يفتتح مشروع تغطية أكبر لوحة فسيفساء بالعالم بقصر هشام في أريحا-تصوير ثائر غنايم

أريحا-(وفا)- رامي سمارة- كان التحدي كبيرا، فكيف يمكن الكشف عن أكبر لوحة فسيفسائية متصلة في العالم، وجعلها متاحة أمام الزوار لمعاينتها والتمتع بجمالها، وفي الوقت ذاته الحفاظ عليها وصونها من التلف بفعل العوامل الجوية والبشرية، بشكل يحفظ الطبيعة الأصلية للموقع، وبإنشاء قابل للفك وليس ثابتا وأبديا.

عدة مراحل ومخططات وضعت لتنفيذ مشروع الكشف عن الأرضية الفسيفسائية التي تعود لبدايات الحقبة الأموية، حيث تمتد على أرضية قاعة الاستقبال في قصر هشام بأريحا، الذي يحمل اسم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وبدأ إنشاؤه عام 743 ميلادي، وأكمل بناءه نجله الوليد الثاني، وكان يمثل المقر الشتوي للدولة بفعل اعتدال درجات الحرارة في المنطقة.

وبخلاف الأهمية التاريخية، تتجسد الأهمية الفنية لهذه الأرضية بأنها مشكلة من نحو 8 ملايين قطعة فسيفساء تحمل أكثر من 23 لوناً، وهي ألوان أحجار فلسطين، كالحجر الأسود من منطقة النبي موسى، والحجر الأحمر من بيت لحم والقدس، والحجر الأبيض من الخليل وجماعين بنابلس، وغيرها، وتقع في نهايتها من الناحية الشمالية الغربية ما تسمى بـ"شجرة الحياة" الواقعة في ديوان الخليفة، وتمثل واحدة من أجمل اللوحات الفسيفسائية في العالم، حسب مدير عام السياحة والآثار في محافظة أريحا والأغوار إياد حمدان.

وأضاف حمدان أن الأرضية الفسيفسائية تجمع بين الأهمية التاريخية والندرة الفنية، حيث أُعملت فيها فنون العصر الأموي التي تأثرت بفترات وحقب سابقة، وهي تقع على مساحة تقدر بـ827 مترا مربعا وتحوي 38 سجادة فسيفسائية تبرز مجتمعة أشكالا زخرفية وهندسية متعددة.

وخضع قصر هشام للتنقيب خلال ثلاث فترات، الأولى في ثلاثينيات القرن الماضي إبان حقبة الانتداب البريطاني، أما الثانية فكانت خلال فترة الستينيات، والثالثة بين عامي 2006 و2011، وتخلل التنقيب أعمال ترميم للوحة الفسيفسائية، ثم طمرها بالرمال، لحمايتها من أشعة الشمس وعوامل الجو المختلفة والأيدي العابثة.

وبيّن الأكاديمي والباحث في علم الآثار والتراث الثقافي حمدان طه، أن اللوحة الفسيفسائية تم الكشف عنها في تنقيبات جرت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، من قبل عالم الآثار الفلسطيني ديميتري برامكي، الذي يعد أب علم الآثار في فلسطين، وتم الكشف عنها في أواخر مواسم التنقيب التي امتدت 12 عاما في الموقع، وجرت التنقيبات على حساب دائرة الآثار الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني.

ولعدم وجود وسيلة للحفاظ على هذه الفسيفساء، طمرت مجددا بطبقة من الرمال حتى بدايات تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وإنشاء دائرة الآثار كجزء من وزارة السياحة والآثار، التي تولت إدارة المواقع الأثرية في فلسطين بعد انقطاع امتد من عام 1948 وحتى العام 1994 بسبب الاحتلال.

وكان قصر هشام بما يحتويه من إرث فسيفسائي، جزءاً من المهام الأولى التي تعاملت معها دائرة الآثار في الوزارة، وبدأت عمليات واسعة لتطوير الموقع الذي كان مهملا في فترة الاحتلال الإسرائيلي، وتزويده بالبنية التحتية الأساسية كموقع أثري وسياحي، بما في ذلك تطوير الطرق الواصلة إلى الموقع، وإعداد المسارات الداخلية، وتزويده بالشرح والتفسير، وأيضاً رفده بمرافق خدمية سياحية.

ووضعت سلسلة من الخطط لتطوير والكشف عن الأرضيات الفسيفسائية وحمايتها في الوقت نفسه، وبدأ العمل عليها منذ العام 1996، ووضعت عدة مخططات لتغطية الفسيفساء بين عامي 2002 و2010، في إطار مشاريع تعاون قادتها وزارة السياحة والآثار بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" ومؤسسات أكاديمية وفنية.

وعام 2016، تم التوقيع على مشروع تعاون مع الحكومة اليابانية من خلال الوكالة اليابانية للتعاون الدولي "جايكا" وتم إعداد خطة لتغطية الموقع بتكلفة وصلت إلى 12 مليون دولار أميركي، والتزمت الحكومة اليابانية بتمويل المشروع، الذي تم الإعلان عن انتهائه، اليوم السبت، وافتتح بشكل رسمي.

مشروع التغطية كما اصطلح على تسميته، يظهر من الخارج على شكل قبة معدنية تغطي الأرضية الفسيفسائية، أقيمت دون الإضرار بالموقع الأثري أو التدخل فيه، استنادا إلى معايير دولية تنظم مسألة الحفاظ على الآثار.

وأوضح مدير عام الترميم وإدارة المواقع في وزارة السياحة والآثار إيهاب الحاج داود، أن التغطية التي يطلق عليها مصطلح (Protective shelter)، بمساحة 2500 متر مربع تقوم على 4 قواعد رئيسية مثبتة في الزوايا، وتم الربط بينها بجسور معدنية.

ويتكون السطح العلوي الخارجي للتغطية، التي ترتفع في أعلى نقطة لـ13 مترا، من مادة معدنية، حتى يتحمل العوامل الجوية لأغراض الديمومة، ومن الداخل، وضعت 3 طبقات عزل، اثنتان ضد الحرارة وهما متصلتان ببعضهما البعض، فيما الطبقة الثالثة مخصصة للحد من الرطوبة.

وأضاف الحاج داود، هناك متطلبات لها علاقة بالحفاظ على الموقع الذي كان يعاني الكثير من المشاكل، كموضوع الرطوبة والمطر والحرارة المرتفعة ونمو النباتات وفضلات الطيور، وكل هذه الأمور تم أخذها بالحسبان خلال التصميم والتنفيذ.

أما من الداخل، فيرى الزائر ما يشبه السقف المستعار أبيض اللون، يعلو شبكة جسور معدنية، في تصميم بسيط يعكس حرص القائمين على المشروع على عدم تشتيت تركيز الزائر عن أرضية الفسيفساء.

وبيّن مدير عام الترميم وإدارة المواقع في وزارة السياحة والآثار، أن الحرص على عدم إشعار الزوار بالضغط الداخلي، ولعدم لفت انتباههم لمشاهد أخرى خلافا للأرضية، راعينا خلال مرحلة وضع المخططات على رفع القبة بشكل كاف وعدم تطعيمها بالكثير من الجماليات.

ولكي يتمكن الزوار من مشاهدة الأرضية الفسيفسائية دون أن تطأها أقدامهم، تم وضع ممرات مستندة على الأعمدة والجدران الأثرية في محيط قاعة الاستقبال، لتشكل مسارات مكونة من المعدن والخشب في غالبها.

وترتفع هذه الممرات المتصلة التي يزيد طولها عن 100م، عن سطح أرضية الفسيفساء في أعلى نقطة إلى نحو 3 أمتار، فيما الجوانب مغطاة بألواح زجاجية.

وأكد إيهاب الحاج داود، أن هذا المشروع الذي يتوج شراكة فلسطينية يابانية، يشكل تجربة ممتازة لوزارة السياحة والآثار، لا سيما أنه يراعي المعايير العالمية لتغطية المواقع الأثرية، وفي مقدمتها إمكانية التراجع والفك، والتدخل بأقل قدر ممكن، ودعم الحفر في أرضية الموقع أو جدرانه.

وأشار إلى أن الوقت الذي وضع على الورق بعد توقيع الاتفاقية مع "جايكا" اليابانية، لتنفيذ مخطط تغطية الأرضية الفسيفسائية في قصر هشام كانت 22 شهرا، إلا أن ذلك اصطدم بعدة عراقيل منها جائحة "كورونا"، وتأخير صدور الموافقات الإسرائيلية على استيراد الشحنات من المواد اللازمة لإتمام المشروع، عدا عن مستجدات ومشاكل فنية طارئة.

من جهته، يؤمن مدير عام وزارة السياحة والآثار في أريحا والأغوار إياد حمدان، بأن افتتاح مشروع تغطية الأرضية الفسيفسائية سيسهم في ازدياد أعداد السياح القادمين إلى فلسطين عامة ومحافظة أريحا والأغوار بشكل خاص، التي تحتوي على أكثر من 100 موقع أثري.

واستند حمدان في إيمانه ذلك، بأن العام 2016 الذي شهد الإعلان عن كشف هذه الأرضية من أجل أعمال التقييم، شهد ارتفاع أعداد الزوار لقصر هشام بنسبة وصلت إلى 900% خلال الشهر الذي أعقب الإعلان.

بدوره، أعرب خبير الآثار حمدان طه عن ثقته بأن المشروع الجديد الذي يمكن الزوار من مشاهدة إرث كان مطمورا تحت طبقة من الرمل على امتداد أكثر من 60 سنة، سيعزز من إمكانيات ومقومات الجذب السياحي لأريحا عامة وقصر هشام تحديدا، وسيحدث نقلة نوعية في أعداد زوار هذا الموقع، إذا ما تعافت السياحة وتم تجاوز القيود التي تفرض بفعل تداعيات جائحة "كورونا" على فلسطين والعالم.

وأردف قائلا، لا شك أن الترويج الإعلامي مهم أيضاً لتطوير السياحة الداخلية والخارجية على حد سواء، وطالما كان قصر هشام مقصدا للسياح على امتداد العقود الماضية، ومشاريع التطوير المتواصلة التي جرت منذ العام 1994 حولت القصر من موقع مهمل إلى حديقة أثرية مزودة بكل الإمكانيات الخدمية، وبمجرد مقارنة أرقام الزوار بين الماضي والحاضر، لنا أن نتبين أن هذا الموقع أصبح من الأكثر زيارة في أريحا، وينافس في ذلك الموقع السياحي الأثري الأبرز في المحافظة وهو تل السلطان.

وفي تموز / يوليو الماضي، أدرجت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو"، قصر هشام على قائمة التراث الخاصة بها، إلى جانب "قرى الكراسي" والبلدة القديمة في نابلس، وميناء "الأنثيدون" الأثري في قطاع غزة.

ووفقاً لحمدان طه، فإن قصر هشام بكل ما يحتويه يمتلك مقومات إدراجه على قائمة التراث العالمي، والموقع يوافق بنسبة كبيرة معايير "اليونسكو" والمجلس الدولي للمعالم والمواقع "ايكوموس" الذي يعنى بحفظ وحماية واستدامة أماكن التراث الثقافي في جميع أنحاء العالم.

ولكن إدراج أي موقع على لائحة التراث العالمي يتطلب إعداد ملف ترشيح من قبل وزارة السياحة والآثار، والتقدم به بشكل رسمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.