رام الله-(الحياة الجديدة)- في عام 2008 أصدر مجلس الوزراء قرارًا يلزم شركات التأمين بنظام تعرفة خاص برسوم التأمينات الإلزامية، ومنها رسوم تأمينات المركبات، وقامت هيئة سوق رأس المال بتطبيقه في عام 2016 وذلك من خلال إيقاف أي خصومات تمنحها شركات التأمين خارج نطاق هذا القرار، ومنذ ذلك الوقت يدور جدل واسع حول الجدوى من تثبيت رسوم تأمين المركبات الإلزامي وعدم إعطاء هامش للمنافسة السوقية. الأرقام تثبت عبر السنوات الماضية أن شركات التأمين استفادت من تطبيق هذا القرار، فأرباحها المتأتية من تثبيت رسوم تأمين المركبات هي الأعلى رغم ذهاب الشركات أحيانًا إلى تفسير أرباحها بأنها نتيجة استثمارات نفذتها وليست من أعمال التأمين.
ماذا تقول الأرقام؟
تشير الأرقام الصادرة عن هيئة سوق رأس المال إلى أن أرباح شركات التأمين عام 2012 بلغت نحو 5.5 مليون دولار، ووصلت في العام 2013 إلى 8.1 مليون دولار، وفي العام 2014 إلى 14.8 مليون دولار، وفي العام 2015 إلى 7.2 مليون دولار، وفي العام 2016 نحو 16.2 مليون دولار، وفي العام 2017 نحو 25.6 مليون دولار، وفي العام 2018 نحو 15.5 مليون دولار، وفي العام 2019 نحو 17 مليون مليون دولار، وفي العام 2020 نحو 21 مليون دولار.
القراءة الأولى لتلك الأرقام تقول إن نسبة الارتفاع في أرباح شركات التأمين بين عامي 2015 و2016 أي السنة الأولى لتثبيت تعرفة رسوم التأمين الإلزامي للمركبات بلغت 128%، بينما وصلت نسبة الارتفاع بين عام 2015 و2020 إلى نحو 191%، اي أن الزيادة ملحوظة بعد تثبيت الأسعار.
ولكن.. هل هذه القراءة تعطي مدلولا كاملاً وصحيحًا؟
الإجابة بالطبع لا، فمقارنة الأرباح وحدها لا تكفي، فمن الطبيعي أن الخدمات التأمينية تشهد نموًا طبيعيًا عامًا بعد عام، وإذا ما أخذنا على سبيل المثال المركبات التي تشكّل حصة الأسد من الخدمات التأمينية سنجد أن عدد المركبات المسجّلة والقانونية في عام 2015 بلغ نحو 175 ألف مركبة بينما بلغ مع نهاية العام 2019 نحو 270 ألف مركبة قانونية أي أن الزيادة بلغت نحو 95 ألف مركبة قانونية أي نحو 54% وهو ما يعطي مؤشرًا طبيعيًا على نمو أكيد في قيمة أقساط التأمين للشركات، وبطبيعة الحال انعكاس ذلك على قيمة الأرباح.
مقارنة عادلة؟
هذه القراءة أيضًا تظل ناقصة، ويذهب الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي محمد خبيصة إلى عقد مقارنة بين السوقين الفلسطيني والأردني، بالقول إنه في الأردن التي تحصي 10 ملايين نسمة، تعمل 24 شركة تأمين تنشط في مختلف القطاعات، سجّلت في 2020 صافي ربح بعد الضريبة 40 مليون دولار، بالإشارة إلى أن السوق الأردنية تضم 1.729 مليون مركبة مسجّلة.
أما في فلسطين التي تحصي 5 ملايين نسمة تعمل 10 شركات تأمين، سجّلت في 2020 صافي ربح 21.5 مليون دولار، صعودًا من 16.9 مليون دولار في 2019. مع العلم أن السوق الفلسطينية تضم 277 ألف مركبة مسجّلة. مع الإشارة إلى أن تأمين المركبات يشكّل تقريبًا ثلثي الأقساط المكتتبة في كل من فلسطين والأردن، وهو ما يبرر وضع أعداد المركبات في المنشور.
هذه قراءة تأخذ في الاعتبار المقارنة المجرّدة بين بلدين مختلفين، بعقد مقارنة فقط بين قيمة أرباح الشركات مع عدد المركبات في كل بلد، لكن هذه القراءة منطقية للوهلة الأولى، لكنها تظل أيضًا ناقصة كونها لا تأخذ في الاعتبار البيئة القانونية والتأمينية في كل بلد، ولا تأخذ في الاعتبار قيمة التعويضات المتكبدة هنا وهناك.
نمو في أقساط التأمين
تظهر الأرقام المسجّلة في هيئة سوق رأس المال أن قيمة أقساط تأمين المركبات في العام 2012 بلغت نحو 85 مليون دولار، بينما بلغت في العام 2013 نحو 92 مليون دولار، وفي العام 2014 نحو 100 مليون دولار، وفي العام 2016 نحو 120 مليون دولار، وفي العام 2018 نحو 184 مليون دولار، وفي العام 2020 نحو 194 مليون دولار أي أن النمو منذ العام 2014 و2020 في قيمة أقسط التأمين بلغت نحو 94% خلال هذه الفترة، الأمر الذي يعود لسببين: الأول تثبيت قيمة سعر رسوم التأمين الإلزامي للمركبات، والثاني للنمو الطبيعي في عدد المركبات القانونية المسجّلة خلال هذه الفترة.
وبلغت قيمة الأقساط التأمينية خلال العام 2020 نحو 250 مليون دولار، بينما بلغت قيمة أقساط تأمين المركبات نحو 181 مليون دولار أي نحو 72% من مجمل الأقساط، بينما بلغت مجمل أقساط التأمين في العام 2019 نحو 302 مليون دولار منها 204 ملايين دولار من تأمين المركبات مشكّلة نحو 68% من مجمل أقساط التأمين.
حجم التعويضات
نحن نتحدث عن خدمة التأمين، التي تقوم أساسًا على جبر المخاطر المحتملة، وبالتالي لا يمكن احتساب قيمة الأرباح وحدها في تقدير حجم ما جنته الشركات، فهناك عنصر مهم يتعلق بحجم التعويضات التي انفقتها الشركات خلال هذه الفترة، أو قيمة التعويضات المتكبدة، إذ تظهر الأرقام أن قيمة التعويضات المتكبدة بلغت في العام 2012 نحو 88 مليون دولار، وفي العام 2013 نحو 82 مليون دولار، وفي العام 2014 نحو 108 ملايين دولار، وفي العام 2015 نحو 98 مليون دولار، وفي العام 2016 نحو 107 ملايين دولار، وفي العام 2017 بلغت نحو144 مليون دولار، وفي العام 2018 نحو 184 مليون دولار، وفي العام 2019 نحو 174 مليون دولار، وفي العام 2020 نحو 166 مليون دولار، منها 113 مليون دولار تعويضات عن حوادث طرق، وبالمجمل يتضح أن قيمة التعويضات في مقارنة بين عامي 2014 و2020 نمت بنسبة 54% وهذا يعود لعدة أسباب: الأول النمو في نسبة الحوادث نتيجة الأزدياد في أعداد المركبات، وثانيًا تحسن آليات التعويض بعد تثبيت تعرفة رسوم التعريفات الإلزامية.
وعودة إلى المقارنة بين السوقين الأردني والفلسطيني في مجال التعويضات، سيتضح أن حجم التعويضات في السوق الأردني سيكون أعلى من حيث القيمة إذ بلغت في العام 2020 نحو 450 مليون دولار (تقريبًا)، بينما بلغت في فلسطين نحو 166 مليون دولار، ولكن حينما نقسم حجم التعويضات على عدد المركبات المسجّلة في كل بلد سيكون نصيب كل مركبة في فلسطين مؤمنة من التعويضات نحو 595 دولارًا، بينما سيكون نصيب كل مركبة أردنية من حجم التعويضات 259 دولارًا، ما يعني أن قيمة التعويض الافتراضية لكل مركبة مقارنة مع حجم التعويضات أفضل في فلسطين مقارنة مع الأردن.
ومع ذلك تظل هذه المقارنة افتراضية، لأن ظروف سوق التأمين في الأردن تختلف تمامًا عنه في فلسطين، فالبيئة القانونية الناظمة لسوق التأمين الأردني تختلف عن قانون التأمين الفلسطيني، فعلى سبيل المثال هناك سقف أعلى للتعويضات في الأردن بموجب القانون أما في فلسطين فلا يوجد، واتفاقية باريس ألزمت شركات التأمين الفلسطينية بالتعويض على شوارع يديرها الاحتلال بموجب القانون الاسرائيلي الأمر الذي يرفع قيمة التعويضات عادة، فعلى سبيل المثال في إحدى حالات الوفاة خلال حادث سير حكمت محكمة إسرائيلية على شركة تأمين فلسطينية بأن تدفع تعويضًا قيمته 12 مليون شيقل، ما يعني تعويضًا يعادل أرباح تلك الشركة خلال 4-5 سنوات.
وحول ذلك يقول براق النابلسي مدير عام هيئة سوق رأس المال الفلسطينية لـ"الحياة الجديدة": المقارنة بين السوقين الفلسطيني وأي سوق آخر لا تستقيم إلا بمعرفة حجم وطبيعة التعويضات، وكذلك بمعرفة البيئة القانونية الناظمة لكل سوق.
ويضيف النابلسي: "في الأردن يوجد سقف للتعويضات أما لدينا فلا، ولذلك بوليصة التأمين في الأردن متدنية القيمة إذا ما قورنت مع فلسطين، فقيمة القسط الإلزامي في الأردن قد يصل إلى 50-60 دينارًا، أما لدينا فيصل القسط إلى أكثر من 200 دينار".
ويتابع: "قد يقول قائل إن شركات التأمين تربح، والحقيقة هي حتمًا يجب أن تربح، فلا يوجد شركات تفتح من أجل أن تخسر، ولكن الأهم لماذا التعرفة مرتفعة لدينا إذا ما قورنت مع الأردن؟ نقول إن اتفاقية باريس الاقتصادية تلزم شركات التأمين على دفع تعويضات لمركبات تسير على شوارع يسيطر عليها الاحتلال، واتفاقية باريس تلزم شركات التأمين بتعويضات بلا سقف، وهذا يبرر ارتفاع قيمة القسط التأميني الإلزامي".
هل الأرباح تشغيلية أم استثمارية؟
كان ممثلو شركات التأمين خلال سنوات ماضية يبررون الارتفاع المتنامي في أرباح الشركات بأن معظمها يعود لأرباح اسثمارية وليست لأسباب تشغيلية، بمعنى أن الربح الأكبر لا يتأتى من أعمال التأمين، فما هي الحقيقة؟
عند العودة للأرقام الصادرة عن هيئة سوق رأس المال، يتبين أن صافي أرباح شركات التأمين في عام 2015 بلغ 7.2 مليون دولار منها 2.5 متأتية من أعمال التأمين أي أن نسبة الأرباح التشغيلية لا تزيد عن 35% من مجمل الأرباح. لكن لا يمكن إطلاق هذا العام كأداة قياس على الأعوام التالية بعد تطبيق قرار تثبيت رسوم التأمين الإلزامي، ففي العام 2016 بلغت أرباح شركات التأمين نحو 16.6 مليون دولار منها 14 مليون دولار أرباح فنية أي نحو 84% من مجمل الأرباح، وكذلك نسبة مساهمة المركبات فيها نحو 9 ملايين دولار أي نحو 54% من مجمل الأرباح المسجلة، ما يدل بشكل قاطع أن قرار تثبيت سعر التأمين الإلزامي انعكس بشكل مباشر.
وفي العام 2017 بلغ مجمل أرباح شركات التأمين نحو 26 مليون دولار منها نحو 22 مليون دولار أرباح فنية من أعمال التأمين أي نحو 84% من مجمل الأرباح المسجلة منها 13.5 مليون دولار أي أكثر من 50% من الأرباح متحققة من تأمين المركبات.
وفي العام 2018 حققت شركات التأمين أرباحًا قيمتها 15.5 مليون دولار منها 9.1 مليون دولار من تأمين المركبات، وفي العام 2019 بلغت قيمة صافي أرباح شركات التأمين الصافية 17 مليون دولار، ولكن قبل الضريبة وصلت إلى 22 مليون دولار منها 16 مليون دولار نتيجة أعمال فنية أي نحو 73% من الأرباح ناجمة عن أعمال التأمين بينها نحو 11 مليون دولار متأتية من تأمين المركبات أي نحو 65% من مجمل صافي الأرباح.
وفي العام 2020 بلغ صافي أرباح الشركات نحو 21 مليون دولار منها 14 مليون دولار من أرباح تأمين المركبات وحده، أي نحو 67% من مجمل الأرباح.
حقوق الملكية
الأرباح وحدها لا تكفي للحكم على أداء شركات التأمين، فهناك ما يسمى بحقوق الملكية وهو ما يساوي محاسبيًا طرح موجودات الشركة من المطلوبات المتربة عليها، أي أنه في حال تصفية أي شركة افتراضيًا يتم احتساب ما لديها من موجودات ثابتة وغير ثابتة يخصم ما على الشركة من ديون والتزامات، فيكون قيمة ما يتبقى هو حقوق للمالكين، وفي حالة شركات التأمين يتبين أن حقوق ملكية شركات التأمين في العام 2015 بلغ 136 مليون دولار، وفي العام 2016 بلغ نحو 138 مليون دولار، وفي العام 2017 بلغ 188 مليون دولار، وفي العام 2018 بلغ 186 مليون دولار، وفي العام 2019 بلغ نحو 189.5 مليون دولار، وفي العام 2020 بلغ نحو 184.4 مليون دولار أي أن حقوق ملكية الشركات ارتفعت بين عامي 2015 و2020 بنحو 48 مليون دولار أي بنسبة 26% وهذا يدل على ملاءة مالية قوية.
أين تتجه هيئة سوق رأس المال؟
تؤكد هيئة سوق رأس المال وجود حاجة لإعادة النظر بتعرفة التأمينات الإلزامية بعد مرور سنوات على اعتمادها.
ويقول النابلسي" فتحنا موضوع تعرفة التأمينات الإلزامية مجددًا ونحن بصدد المراجعة"، مشيرًا إلى أن الهيئة تتجه فعلا لمراجعة قانون التأمين، قائلا: "أنهينا المسوّدة الصفرية لقانون التأمين، وهي قيد المراجعة التشريعية، الخطوة الثانية سنقوم بدراسة التعرفة الإلزامية لأقساط التأمين ضمن واقع جديد، فلا نستطيع أن نبقي هذه التعرفة وهذه الأسعار في ظل ظروف السوق الحالية، لدينا حاليًا 8 شركات تأمين اثنتان منها تعمل بموجب الشريعة الإسلامية و6 شركات تعمل بموجب الأحكام التجارية التقليدية".
ويضيف: "ما يهمنا في الهيئة هو المواءمة بين استمرار عمل شركات التأمين والوفاء بالتزامتها تجاه المؤمنين وتحقيق أرباح مقبولة وبين مصلحة المواطنين"، مشيرًا إلى أن الهيئة بدأت بالتعاقد مع أحد الخبراء لدراسة التعرفة الإلزامية.
ويقول: "حتى لو جاءت الدراسة تقول إن الرسوم قليلة أو كثيرة فهذا لا يعطي الهيئة الحق في تغييرها، فالقانون لا يعطي الهيئة الحق في التدخل لتخفيض أو رفع التعرفة كل فترة زمنية".
وبين أن الهيئة ترفع توصياتها فقط ومن يقرر هو المجلس التشريعي أو مجلس الوزراء، مشيرًا إلى أن الدراسة "الاكتوراية" التي تجريها الهيئة تأخذ في الاعتبار عدد المركبات وعدد الحوادث والتعويضات، مبينًا أن واقع التأمين يعتمد على تأمين المركبات فلا يوجد في فلسطين قاعدة تأمينية متنوعة، ولهذا فإن أي تغيير سيترك آثارًا مباشرة على واقع سوق التأمين.
هل الأرباح معقولة؟
لا يوجد جواب حاسم من الناحية الاقتصادية إن كانت قيمة الأرباح التي تحققها شركات التأمين معقولة أم لا، فلا توجد قاعدة ثابتة في ذلك، ولكن يمكن مقارنة ذلك مع رأس المال المستثمر، كما أن الأمر يتعلق من أي وجه يمكن قراءة هذه الأرقام، لكن بشكل عام تظل صناعة التأمين محفوفة بمخاطر عالية تحتاج إلى دراسة معمقة لمعرفة امكانية خفض رسوم التعرفة الإلزامية، كما أن مجمل أرباح شركات التأمين لا توازي أرباح بنك واحد في فلسطين.
وتخشى هيئة رأس المال من ناحية أخرى العودة إلى الوراء بأن يؤثر إعادة خفض الأسعار على جودة الخدمة وخاصة في مجال التعويضات أو يتسبب ذلك بخروج شركات من المنافسة في حال تحرير السعر، كما حصل سابقًا مع الشركة العربية للتأمين التي أغلقت أبوابها في ظل منافسة محتدمة على الأسعار.
وعلمت "الحياة الجديدة" أن نقاشًا يدور حاليًا بين كافة اللاعبين في قطاع التأمين لإعادة النظر في طريقة احتساب تعرفة التأمين الإلزامية، ومن بين المقترحات ألا تكون التسعيرة موحّدة فقط حسب نوع السيارة وقوة المحرك، بل يجب احتساب السيرة الذاتية للسائق، فكلما قل عدد الحوادث التي تسبب بها السائق انخفضت قيمة رسوم تأمينه، والعكس صحيح. لكن أفكارًا أخرى يتم تداولها حاليًا من بينها اطلاق مكتب التأمين الموحّد بمعنى إلغاء حرية الاختيار لدى المؤمن ويتم اختيار الشركة تلقائيًا من قبل مكتب التأمين الموحّد، وترك ذلك لعوامل السوق، بحيث تأخذ كل شركة حصتها السوقية من مجمل التأمينات أسوة بالتجربة الأردنية.