رام الله-(الحياة الجديدة)- تخرّج محمد موسى (23) عامًا من الجامعة قبل نحو عامين، حاصلا على بكالوريوس في تخصص الرياضيات والإحصاء بتقدير جيد جدًا، ورغم أنه يسكن في مدينة رام الله العاصمة الإدارية المؤقتة لفلسطين التي تضم معظم مقرات المؤسسات الحكومية وشركات القطاع الخاص غير أنه فشل في الحصول على وظيفة بعد تقدمه للعديد من الوظائف المعلنة.
محمد فقد الأمل في الحصول على وظيفة بعد مرور عامين على تخرجه، استسلم للأمر للواقع، وها هو يستجيب لعرض تقدم به أحد الاصدقاء بالالتحاق بعمل داخل الخط الأخضر.
يصحو محمد الساعة الثالثة والنصف فجرًا ليكون مستعدًا لرحلة من العناء، يحضّر أغراضه، ثم يتوكل قاصدًا حاجز نعلين، هناك يصطف في طابور طويل من العمال الباحثين عن لقمة عيشهم داخل الخط الأخضر، ثم يلتحق برفقة زملاء له بورشة بناء، ينقلون الحصمة والباطون ويشاركون في أعمال بناء شاقة.
يقول محمد: "لم يكن مجال أمامي سوى البحث عن لقمة عيش وإن كانت مرّة، بعد أن فقدت الأمل في الحصول على وظيفة، سعيتُ للحصول على تصريح للعمل داخل الخط الأخضر، ورغم أنني احمل درجة البكالوريوس غير أنني أصبحت عاملا، اتقاضى يوميًا نحو 250 شيقلا، صحيح أن الأجر أفضل من أي وظيفة يمكن الحصول عليها داخل الأراضي الفلسطينية لكن العمل شاق واضطر إلى المبيت قبل العاشرة ليلا كي أصحو باكرًا".
محمد ليس إلا واحدًا من قرابة (45) ألف شاب وشابة فلسطينية يتخرّجون من الجامعات المحلية سنويًا، بينما سوق العمل لا يستوعب إلا عددًا محدودًا منهم في ظل اقتصاد فلسطيني ضعيف، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني سنويًا قرابة 16 مليار دولار فقط بينما يصل الناتج المحلي لدولة الاحتلال إلى نحو 390 مليار دولار.
ورغم التدخلات التي تجريها الجهات الرسمية والقطاع الخاص لخلق فرص عمل أو تأهيل الخريجين على احتياجات السوق، غير أن المنجز يظل أقل بكثير من الاحتياج.
على مسافة قريبة من مكان سكن محمد، كانت ورشة تعقد في أحد فنادق رام الله نظمها الصندوق الفلسطيني للتشغيل بحضور ممثلين عن وزارت العمل، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتربية والتعليم وممثلين عن القطاع الخاص، وآخرين عن الجامعات والنقابات. تركّز النقاش حول برنامج "تمهير" الذي يقوم عليه الصندوق الفلسطيني للتشغيل بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي من خلال برنامج الوصول إلى سوق العمل (PALM) المنفذ بالشراكة الاستراتيجية مع وزارة العمل والمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي GIZ وبتمويل من الحكومة الألمانية، ويهدف إلى دمج 400 خرّيج عاطل عن العمل في سوق العمل عبر تأهيلهم وإكسابهم المهارات اللازمة.
الورشة تحولت إلى نقاش واسع وساخن حول السبب في وجود هوّة واسعة بين مخرجات التعليم وبين احتياجات سوق العمل، ففي وقت ذهب فيه ممثلو الوزارات الرسمية إلى أنهم يبذلون جهودهم لتوجيه الطلبة نحو التعليم المهني عبر فتح تخصصات في هذا المجال، غير أن ممثلين عن القطاع الخاص تحدثوا عن استمرار الفجوة، متهمين الجامعات تحديدًا بطرح تخصصات لا تلبي احتياجات السوق أو أنها لا تقدم المهارات اللازمة للطلبة لدمجهم في الأعمال التي يرغب القطاع الخاص بها.
الأرقام صادمة
الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للاحصاء تشير إلى واقع مرير في صفوف الخريجين، إذ لا يزال معدل البطالة بين الأفراد (20-29 سنة) الحاصلين والحاصلات على شهادة دبلوم متوسط أو بكالوريوس مرتفعًا، اذ بلغ هذا المعدل 54% في عام 2020، بواقع 35% في الضفة الغربية 78% في قطاع غزة. في حين كان هذا المعدل حوالي 53% في عام 2019 على المستوى الوطني.
وتؤكد الأرقام الصادرة عن الاحصاء أن البطالة تتركز في تخصصات معينة أكثر من غيرها، إذ تصل نسبة البطالة في صفوف خريجي تخصص الرياضيات والاحصاء إلى نحو 78%، فيما بلغت في صفوف الدراسات الإنسانية (باستثناء اللغات) نحو 72%، وفي تخصصات التعليم 73%، والعلوم الفيزيائية نحو 69%، والعلوم الاجتماعية والسلوكية نحو 64%، في حين وصلت في تخصص التكنولوجيا والاتصالات نحو 59%، والصحافة والإعلام نحو 56%، وفي القانون نحو 50%.
توجيه الاتهامات نحو مخرجات التعليم
هذا الواقع الصعب والأرقام الصادمة، فرضت نفسها في الورشة التي وجد فيها ممثلو القطاع الخاص فرصة لإطلاق النار على مخرجات التعليم العالي في فلسطين، بتأكيدهم أن الجامعات مستمرة في رفد السوق بتخصصات لم يعد لها حاجة.
ففي طرف القطاع الخاص الذي مثله محمد العامور عن المجلس التنسيقي للقطاع الخاص، وجمال جوابرة ممثلا عن الغرف التجارية، وعودة شحادة ممثلا عن الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية، ركّز المتحدثون على ما سموه "غياب التخطيط الاستراتيجي عن توجهات الحكومة بخصوص التشغيل وخلق فرص عمل"، مشيرين إلى ضرورة وجود توجّه للاستثمار في قطاعات محددة وتوفير التسهيلات الاستثمارية لها بهدف خلق تنمية مستدامة حقيقية.
ورأى ممثلو القطاع الخاص أن مشكلة البطالة في صفوف الخريجين تمثل "قنبلة موقوتة" في المجتمع الفلسطيني، مطالبين بخطة وطنية شاملة يكون التعليم فيها مساندًا لهذه الخطة، وتأخذ في الاعتبار مواءمة التخصصات مع الاحتياجات السوقية ومتطلبات الاقتصاد الرقمي تحديدًا، مع ضرورة توجيه الإقراض البنكي نحو مشاريع إنتاجية وليست استهلاكية.
وأكدوا ضرورة إعداد طلبة يلبون احتياجات السوقين المحلي والعالمي وتعزيز الفكر الابداعي في قطاعات يحتاجها السوق العالمي مثل قطاع التكنولوجيا، مستلهمين تجارب دول مصدّرة للعمالة في هذا الجانب مثل الهند.
وتحدث ممثلو القطاع الخاص عن وجود مشكلة حقيقية فيما تطرحه الجامعات من تخصصات وبين احتياجات القطاعات الاقتصادية المختلفة، مشيرين إلى أن العدد الأكبر من الخريجين يحتاجون إلى عملية تدريب داخل الشركات حتى لو تعرضوا لتدريبات من قبل جهات مختلفة.
ولفتوا إلى أن التنافس التجاري بين الجامعات يغلب على طبيعة التخصصات المطروحة وليس احتياجات البلد، إذ لم يكن القطاع الخاص شريكًا في تحديد طبيعة البرامج المطروحة أكاديميًا أو في تحديد طبيعة محتواها.
ويسهم القطاع الخاص حسب ممثليه بنحو 80% من القوى العاملة في فلسطين، إذ يبلغ عدد العاملين في الشركات على اختلاف أنواعها نحو 700 ألف عامل يضاف إليهم نحو 100 ألف عامل في القطاع الأهلي، ليصل العدد إلى نحو 800 ألف عامل من أصل قرابة مليون عامل.
وتشير البيانات الواردة من جهاز الإحصاء المركزي إلى أن عدد العاملين في فلسطين بلغ مع نهاية النصف الأول من العام الجاري نحو 1.016 مليون عامل منهم نحو 869 ألف يعملون في السوق المحلي بينما يعمل في إسرائيل 146 ألف مواطن.
التعليم المهني.. حصة متواضعة
على الطرف الثاني من الجلسة الحوارية، جلس ممثلو الوزارات الرسمية يدافعون عن سياسات الحكومة الداعمة للتعليم المهني والمحفّزة لخلق شراكة حقيقية بين القطاعات: الحكومي والخاص والجامعات، بهدف كسر الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق، مؤكدين وجود خطط حكومية فاعلة لتوجيه دفة التعليم نحو القطاع المهني، لكنها تصطدم بالثقافة المجتمعية السائدة التي ما زالت تغلب التعليم الأكاديمي رغم الحاجة المجتمعية الملحة للتعليم المهني.
وقال وزير العمل نصري أبو جيش في كلمة افتتاحية له خلال الحوار، إن البطالة مرتفعة في صفوف خريجي عدد من التخصصات إذ يصل بعضها إلى نحو 80%، مشيرًا إلى أن الفارق بين التعليم المهني والتعليم الأكاديمي مازال كبيرًا إذ لا يحظى التعليم المهني بأكثرمن 8% من حجم الملتحقين بالتعليم الفلسطيني، بينما يستحوذ التعليم الأكاديمي على حصة الأسد 92% رغم أنه يسهم إلى حد بعيد في رفع نسبة البطالة من خلال رفد السوق بخريجين في تخصصات لا تحتاجها القطاعات الاقتصادية.
وأكد أبو جيش ضرورة توحيد الجهود لتوجيه الطلبة نحوالتعليم المهني الذي يحتاجه المجتمع، منوهًا إلى ضرورة أن تتحمل القطاعات المختلفة المسؤولية تجاه الخريجين وتدريبهم وخلق فرص عمل لهم، مشيرًا إلى أن السوق الفلسطيني صغير والاستثمار فيه ضعيف بسبب ظروف الاحتلال.
ولفت إلى توجهات الحكومة عبر برامج تشغيل مختلفة للمساهمة في خلق فرص عمل منها توجهات لتوفير 6 آلاف وظيفة بديلة للعاملات في المستوطنات من خلال توفير التمويل اللازم لعدد من المشاريع الصغيرة.
وكان مجلس الوزراء ناقش في جلسته الأخيرة توصيات اللجنة الوطنية للتمكين الاقتصادي للنساء العاملات في المستعمرات الإسرائيلية، وقرر اعتماد خطة التمكين الاقتصادي بتكلفة تصل إلى 28 مليون شيقل للسنوات الأربع المقبلة.
فجوة كبيرة بين حجم التشغيل وأعداد الخريجين
وأكد المدير التنفيذي للصندوق مهدي حمدان أن توفير فرص العمل للخريجين إحدى المنهجيات التي يعمل عليها الصندوق الفلسطيني للتشغيل والحماية الاجتماعية للعمال.
لكن حمدان أشار إلى أن الفجوة كبيرة بين فرص التشغيل وحجم الخريجين، باستعراضه أرقامًا كبيرة للخريجين سنويًا، إذ بين أنه يوجد 52 مؤسسة تعليم عال في فلسطين، التحق بها عام 2020 نحو 62 ألف طالب، بينما يتراوح عدد الخريجين سنويًا بين 42-46 ألف خريج، مبينًا أن عدد المسجّلين حاليًا في مؤسسات التعليم العالي في فلسطين يصل إلى نحو 218 ألف طالب.
وأشار حمدان إلى أن 40-48 ألف طالب يلتحقون سنويًا بقطاع التعليم العالي الفلسطيني ما يعني مزيدًا من الضغط على سوق ضعيف تتوفر فيه إمكانية تشغيل محدودة.
وتشير تقديرات لدى وزارة العمل إلى أن السوق الفلسطيني بكافة قطاعاته كان يمتلك قدرة في أحسن الأحوال على توفير 8-10 آلاف وظيفة سنويًا (قبل جائحة كورونا)، لكن الانكماش الذي سجّل في الاقتصاد الفلسطيني خلال العام الماضي الذي وصلت نسبته (حسب تقديرات البنك الدولي) إلى 11.5% سيحد من قدرة الاقتصاد بكل تأكيد على توفير هذا العدد من فرص العمل.
ومثّل القطاع الحكومي في الجلسة الحوارية علي الصاوي ممثلا عن وزارة العمل، وسامر موسى ممثلا عن التعليم التقني/ التربية والتعليم العالي والبحث العلمي، ومعمر اشتيوي رئيس الهيئة الوطنية للاعتماد والجودة ممثلا عن وزارة التربية والتعليم العالي، ومحاسن سحويل ممثلة عن وزارة التربية والتعليم. وأدار الجلسة إبراهيم النجار.
وحاول ممثلو القطاع الحكومي تسليط الضوء على الجهود التي يقومون بها سواء على صعيد التشغيل أو تدريب الخريجين وتأهليهم، أو على صعيد إدراج تخصصات في التعليم المهني ودفع عجلة التعليم نحوه، مؤكدين أن العديد من البرامج التي تقدمها الجامعات يتم رفضها لعدم مواءمتها مع الاحتياجات أو أنها لا تلبي الشروط.
وأكدوا ضرورة أن يتوجه الخريجون في ظل الواقع الصعب الذي يمر به الاقتصاد الفلسطيني إلى مرحلة خلق فرص عمل بدلا من البحث عن فرصة العمل من خلال إنشاء التفكير بمشاريع إنتاجية ودعمها وتعزيز الفكر الريادي والإبداعي.
كما طالب بعض المشاركين في الحوار بالدمج بين التعليم الأكاديمي والمهني في بعض التخصصات من خلال تخصيص وزن معين من المساقات المهنية في كل تخصص أكاديمي. لكن ممثلي القطاع الحكومي لم يكشفوا في الجلسة عن عدد التخصصات الأكاديمية وطبيعتها التي حصلت عليها مؤسسات التعليم العالي في فلسطين خلال السنوات الأخيرة رغم وجود توجهات حكومية لدعم التعليم المهني.
الجامعات في موقف الدفاع
الجامعات رغم قلة تمثيلها في هذه الجلسة الحوارية، وجد بعض الممثلين عنها اللقاء فرصة للدفاع عن مؤسسات التعليم العالي، مشيرين إلى أن الجامعات تخوض معركة مالية صعبة، تجد نفسها مضطرة للاعتماد على إيراداتها الداخلية في التمويل دون دعم حكومي. ومع ذلك أكد ممثلون عنها أنهم في كل عام يبحثون عن تخصصات جديدة تلبي احتياجات السوق وفق مؤشرات خاصة بها، داعين القطاع الخاص إلى طرح احتياجاتهم بشكل واضح كي يأخذ بها عند إقرار البرامج الدراسية.
خلال الجلسة خرج ممثل عن نقابة المهندسين ليؤكد أن الواقع الحالي صعب، فالسوق يحتاج مقابل كل مهندس ستة فنيين، لكن الحاصل العكس، إذ يوجد لدينا في فلسطين ستة مهندسين مقابل فني واحد فقط.
من 10 إلى 25 شهرًا للحصول على أول فرصة عمل
يكشف الجهاز المركزي للإحصاء أنه في عام 2020، بلغ أعلى معدل فترة تعطّل بالأشهر بين الأفراد (20-29 سنة) في فلسطين والحاصلين على شهادة دبلوم متوسط أو بكالوريوس في تخصص الدراسات الإنسانية (باستثناء اللغات) بمعدل 25 شهرًا، في حين بلغ أدنى معدل فترة تعطل في تخصص الرياضيات والإحصاء بمعدل 10 أشهر.
فارق كبير بين الضفة وغزة
محمد موسى رغم معاناته مع البطالة غير أنه وجد فرصة عمل صعبة في الداخل المحتل، وتظل الأوضاع في الضفة الغربية أفضل منها بكثير إذا ما قورنت مع قطاع غزة حيث كانت تعقد هناك جلسة حوار شبيهة بالتزامن، إذ يبين الجهاز المركزي للإحصاء أن عدد العاطلين عن العمل بلغ 366 ألف عاطل عن العمل في الربع الثاني من 2021؛ بواقع 212 ألف شخص في قطاع غزة وحوالي 154 ألف شخص في الضفة الغربية. إذ لا يزال التفاوت كبيرًا في معدل البطالة بين الضفة وغزة، حيث بلغ المعدل 45% في غزة مقارنة بـ 17% في الضفة.
يشار إلى أن الفجوة في نسبة البطالة ترتفع عامًا بعد آخر بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فبينما لم تزد نسبة البطالة في قطاع غزة عن 18% في عام 1998، إلا أن أحداث انتفاضة الأقصى فاقمت الأوضاع سوءًا فوصلت النسبة في عام 2002 إلى 38% ثم تراجعت قليلا في الأعوام التالية قبل أن تتفاقم مجددًا منذ عام 2007 أي منذ الانقلاب الذي نفذته حركة "حماس" على السلطة الوطنية وما أعقب ذلك من أحداث وتعرض القطاع لأربع حروب مدمرة. فقد وصلت نسبة البطالة في قطاع غزة في حينه إلى نحو 38% ثم ارتفعت وصولا إلى 45% حاليًا، لكن التوقعات تشير إلى أن استمرار الأوضاع القائمة ستزيد الفجوة مجددًا.
أما نسبة البطالة في الضفة فقد حافظت على استقرارها مع وجود تحسّن في المعطيات في بعض السنوات، فقد وصلت نسبة البطالة عام 1998 إلى نحو 11.5% فقط، ثم تفاقمت مع انتفاضة الأقصى لتصل إلى نحو 28% في عام 2002، ثم تراجعت تباعًا في السنوات اللاحقة لتستقر عند 17% مع تركّز معظم أعداد العاطلين عن العمل في صفوف خريجي الجامعات.