ورقة لـ"ماس" حول تدخّلات إسرائيل الاقتصادية في الضفة

تاريخ النشر
صورة توضيحية

ملخّص سياساتي لمعهد "ماس"*

تحاول "الإدارة المدنية الإسرائيلية"، خاصة في السنوات الأخيرة، التنصل بشكل أحادي الجانب من أحكام اتفاق أوسلو وملحقاته، وتفرض نفسها بشكل تدريجي كبديل عن السلطة الوطنية الفلسطينية ووزاراتها.

اعتمدت نشاطات الإدارة المدنية في السنوات الأخيرة على توسيع دائرة التواصل المباشر مع قطاعات واسعة من المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية.

بحكم سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على نظام التصاريح والتنقل، والمعابر، والأراضي الزراعية في مناطق "ج"، وآليات الاستيراد والتصدير بالإضافة إلى مصادر الطاقة (كهرباء ومياه) فإن بإمكانها فرض نفسها كجهاز لا بد من الاعتماد عليه لاستمرارية النشاط الاقتصادي الفلسطيني.

كما أن الإدارة المدنية تحاول أن تقيم علاقات مباشرة مع مزارعين، تجار، رجال أعمال، والعمال باعتبارها المرجعية الأولى وبشكل يتجاوز مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، بل تقدم نفسها بديلاً عنها كمزود للتسهيلات والخدمات.

في القطاع الزراعي مثلاً، تقوم الإدارة المدنية بمشاريع زراعية ضخمة في أراضي الفلسطينيين من خلال توفير كل المستلزمات المادية، المعرفية والتسويقية.

تصل الأراضي التي تشرف الإدارة المدنية على زراعتها من خلال الفلسطينيين إلى عشرات الآلاف من الدونمات، تشمل سلعاً ذات قيمة مرتفعة كالأناناس، الأفوكادو، التمور، الخيار، التوت، الأسماك.

في القطاع الصناعي أيضا، تقدم الإدارة المدنية برامج خاصة تستدرج من خلالها القطاع الخاص باتجاه توطيد تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي.

يشمل هذا برنامج التصدير السريع (باب إلى باب)، ومنح شهادات جودة والسماح للمصدرين الفلسطينيين باستخدام نظام ضريبي إسرائيلي.

اما في قطاع العمالة، فتحولت الإدارة المدنية الى أكبر وسيط لتشغيل العمال من خلال منصتها الالكترونية التي يعتبر الدخول إليها شرطاً أساسياً للحصول على تصريح عمل، بالإضافة إلى برامج أخرى تستهدف العمال.

التحدي الأساسي

لقد بات واضحاً من خلال الأدوار التي تلعبها الإدارة المدنية في الحياة الاقتصادية للفلسطينيين أن مساحة التواصل المباشر ما بين الإدارة المدنية والمواطن الفلسطيني آخذة في الاتساع.

في بعض الحالات توفر الإدارة المدنية مغريات اقتصادية وتسهيلات تدفع المواطن للتعامل معها برغبة، وأحياناً يكون مضطراً بسبب إحكام سيطرة الإدارة المدنية على ركائز الحياة الاقتصادية في الضفة الغربية.

استغلت الإدارة المدنية جائحة "كورونا" وأزمة توقف التنسيق المدني مع السلطة الفلسطينية خلال العام 2020، لتمضي قدماً وبشكل تدريجي في خطتها لتهميش دور الارتباط الفلسطيني أو هيئة الشؤون المدنية.

بعد 28 سنة على إقامة السلطة الوطنية، وبعد 10 سنوات من الجهود المكثفة لتثبيت شرعية دولة فلسطين في المحافل الدولية، فإن الإدارة المدنية الإسرائيلية تتصرف كأن شيئاً لم يتغير وكأنها المتحكم الأول والأخير في مصير الشعب الفلسطيني.

من المقلق مشاهدة هذا التوسع والتحديث في آليات التحكم الاستعماري الإسرائيلي وقنواته في جوانب الحياة الفلسطينية كافة، الذي يتجاهل تماماً وظيفة السلطة الوطنية الفلسطينية بحسب الاتفاقيات الموقعة، ويقوض سياساتها للانفكاك من التبعية الاستعمارية للاقتصاد الإسرائيلي.

إن المشاريع والبرامج التي تقوم بها الإدارة المدنية من خلال نسج علاقات مباشرة مع الفلسطينيين تحاكي حاجات فردية ملحة لدى الفلسطينيين، رغم انعكاساتها السلبية على المشهد الاقتصادي الكلي.

للتوضيح، لا يمكن لتدخلات الإدارة المدنية أن تلقى استجابة من الفلسطينيين لولا أنها تلامس حاجات ومصالح وفجوات اقتصادية أساسية لدى القطاعات الاقتصادية المختلفة في الضفة الغربية لا تلبيها خدمات وبرامج مؤسسات السلطة الوطنية.

إلا أن هدف الإدارة المدنية من ذلك ليس بناء اقتصاد فلسطيني قوي، مستقل ومستدام، بل إلحاق قطاعات فلسطينية معينة وذات أولوية باقتصاد الاحتلال وفق معادلة قوى غير متوازنة.

السياسات والتدخلات المطلوبة

مع أن هناك اختلالاً واضحاً في موازين القوى لصالح الإدارة المدنية التي تتحكم بالحدود، والمعابر، وآليات الاستيراد والتصدير، وأراضي منطقة "ج"، بالإضافة إلى مفاتيح اقتصادية حيوية أخرى، إلا أن هناك أيضاً إمكانية لمنع تطور العلاقات المباشرة بين الإدارة المدنية والفلسطينيين، وضبطها من خلال المؤسسات الرسمية للسلطة الفلسطينية، ووفق رؤيتها المستقلة لمفهوم الاقتصاد الوطني الفلسطيني المستقل.

كما أن محاولات التصدي لتدخلات الإدارة المدنية وكشف أهدافها بعيدة المدى وحث المواطنين على عدم الاستجابة لها، لا بد أن يترافق مع خطة فلسطينية رسمية وأهلية لتوفير احتياجات اقتصادية بديلة عن تلك التي تقدمها الإدارة المدنية.

المستوى السياسي - الدبلوماسي

بعض المنظمات والهيئات الدولية، التي تعتبر لاعباً أساسياً في الساحة الفلسطينية، لا تزال تتعامل مع الإدارة المدنية كجسم شرعي وموازٍ للسلطة الفلسطينية، وليس باعتبارها الطرف المحتل.

يظهر ذلك من خلال الدعم المادي واللوجستي الذين تقدمه بعض الجهات الدولية للمشاريع الاقتصادية التي تقدمها الإدارة المدنية والتي تستهدف إقامة علاقات مباشرة مع الفلسطينيين (مثلاً، برنامج باب إلى باب الممول من قبل الرباعية الدولية ووكالة التنمية الأميركية).

يمكن للسلطة الفلسطينية أن تستخدم قنواتها الدبلوماسية بهدف تغيير شكل العلاقة الثلاثية التي تجمع بين المنظمات الدولية الداعمة، الإدارة المدنية والمواطن الفلسطيني.

مثلاً، يمكن الضغط على المنظمات الدولية والجهات المانحة باتجاه الإصرار على أن تنفذ برامج من خلال السلطة الفلسطينية، على أن يكون دور الإدارة المدنية منحصراً في الجانب التقني، وليس التخطيطي.

ويقصد في الجانب التقني، حتمية التعامل مع الإدارة المدنية بحكم سيطرتها على مناطق "ج"، المعابر، الجسور، والتصاريح. لكن هذا لا يخولها أن تكون المخطط في ماهية البرامج الاقتصادية الفلسطينية.

مستوى السياسات الاقتصادية الحكومية

تقوم السلطة الفلسطينية بتنفيذ العديد من البرامج العنقودية، والخطط (بعضها سنوية وبعضها متعدد السنوات) بهدف التدخل في القطاعات الإنتاجية بغية تقوية الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز مكانة اللاعبين الاقتصاديين الفلسطينيين.

بيد أن معظم هذه البرامج تركز بشكل أكبر على إنجاح مشاريع اقتصادية، وتشغيل أيدٍ عاملة جديدة، ومصادر دخل جديدة.

هذه البرامج على أهميتها، تهمل أحد الجوانب المهمة في الاقتصاد الفلسطيني وهو علاقة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي.

مثلاً، معظم الصناعات الكبرى تصب منتجاتها في السوق الإسرائيلي، وتمر بالضرورة عبر المعابر التجارية الإسرائيلية، ما يعني أن العلاقة مع الاقتصاد الإسرائيلي هي علاقة واسعة جداً، وأن كل منتج فلسطيني لا بد أن يمر، في مرحلة من مراحل إنتاجه، من خلال قنوات الإدارة المدنية.

في هذا السياق، فإن دور السلطة الفلسطينية يجب أن يشمل آليات لضبط هذه العلاقة الحتمية التي تجمع المواطن مع الإدارة المدنية، وذلك من خلال:

- تفعيل دور هيئة المعابر والحدود الفلسطينية ليشمل آليات التصدير إلى السوق الإسرائيلي.

هذا الدور يمكن أن يبدأ بتنسيق لوجستيات نقل البضائع، وصولاً إلى تحول الهيئة إلى البوابة الوحيدة للعبور إلى إسرائيل.

في العام 2005، رفصت إسرائيل تواجد هيئة المعابر والحدود على بوابات الجدار العازل التجارية، لكن لم يتبع هذا الرفض خطة فلسطينية بديلة لمراقبة لوجستيات التصدير.

- تفعيل دور الضابطة الجمركية لتشمل الصادرات إلى جانب دورها المحصور حالياً في الواردات.

- إدخال تسهيلات حقيقية على إجراءات مكاتب الضريبة وآليات إصدار أوراق المقاصة.

فمثلاً، قبول بعض التجار بنظام الفواتير الإسرائيلي جاء بسبب بطء وفوضى آليات إصدار شهادات المقاصة.

- اتخاذ إجراءات قانونية بحق التجار الذين يتعاملون مباشرة مع الإدارة المدنية في "تسهيل" أمورهم الشخصية، على أن يترافق الأمر مع إحداث تغييرات حقيقية في آليات التنسيق والارتباط بحيث يستشعر التجار أن هناك بديلاً حقيقياً عن توجههم المباشر للإدارة المدنية.

- ضبط آليات إصدار تصاريح التجار، والـ BMC وتصاريح الاستيراد والتصدير والتي، بناء على شهادات العديد من التجار، تنطوي أحياناً على فساد أو ابتزاز، ما يدفع التجار إلى اللجوء مباشرة إلى مكاتب الإدارة المدنية.

- قيام وزارة الاتصالات بالتنسيق مع الشركات المزودة للإنترنت لحجب مواقع وتطبيقات إسرائيلية عن مستخدمي الانترنت الفلسطينيين. ويشكل حجب تطبيق المنسق أولوية في هذا السياق كونه يعتمد على مد أذرع الإدارة المدنية إلى داخل كل بيت ومؤسسة في فلسطين.

مستوى التنسيق المدني

على الرغم من أن هيئة الشؤون المدنية هي الجهة المختصة في القيام بعلاقات التنسيق والارتباط مع الإدارة المدنية الاسرائيلية، إلا أن هناك قنوات تواصل أخرى بين مؤسسات السلطة والإدارة المدنية، سواء بحكم تفاهمات مسبقة، أو بحكم الأمر الواقع.

تشمل هذه القنوات الغرف التجارية والصناعية والزراعية، بالإضافة إلى بعض الوزارات على مستوى الوكلاء أو الفنيين.

هناك حاجة ملحة لضبط وسائل وقنوات التنسيق المدني مع الإدارة المدنية ضمن رؤية مشتركة ومراقبة دقيقة، كونه يخلق أرضية ملائمة للاستفادة غير المشروعة من العلاقة مع الإدارة المدنية.

مستوى اللاعبين الاقتصاديين

حتى الآن، لا توجد سياسة رسمية واضحة للتعامل مع حالة التواصل المباشر بين المواطن الفلسطيني والإدارة المدنية.

إن وجود قنوات رسمية للتنسيق المدني بين السلطة الفلسطينية والإدارة المدنية لم يتم استكماله حتى الآن بآليات لضبط ورقابة العلاقة الموازية بين المواطن الفلسطيني والإدارة المدنية، ما "يشجع" المزيد من المواطنين على تجاوز هيئات السلطة.

إن ضبط العلاقة بين المواطن والإدارة المدنية يقع في صلب مفهوم السيادة الفلسطينية الذي يتم بناؤه وتطويره عبر السنوات.

تختلف صعوبة ضبط هذه العلاقة بين الفئات الاقتصادية المختلفة. فمثلاً، آليات ضبط علاقة التجار والمستوردين مع الإدارة المدنية، تختلف كلياً من حيث إمكانية تنفيذها ونجاحها عن ضبط العلاقة بين العمال والإدارة المدنية.

لكن في النهاية، إن لم يكن هناك من سبيل إلى انهاء العلاقة الاقتصادية بين المواطن والإدارة المدنية، يحب أن تتوافق هذه العلاقة مع رؤية الحكومة الفلسطينية للاقتصاد الفلسطيني وألا تتضارب معها.

--------------------

* يصدر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) بشكل دوري مجموعة من الدراسات التطبيقية والعلمية المفصلة، بالإضافة إلى مجموعة من الأوراق المختصرة ضمن سلسلة سنوية لجلسات الطاولة المستديرة تتناول موضوعات حيوية ذات أبعاد اقتصادية تهم الجمهور وصناع القرار. لتعميم وتعظيم الاستفادة من هذه السلسلة ينشر هذا الملخص السياساتي لأبرز توصيات هذه الأنشطة العلمية الحوارية.