رام الله-وفا-جعفر صدقة-سيتعين على الحكومة التعامل في الأشهر القادمة، إلى حين انتهاء أزمة "كورونا"، مع نصف دخلها المعتاد، حسبما قال رئيس الوزراء محمد اشتية، في مؤتمره الصحفي يوم الأحد، لكن يبدو أن المالية العامة على أعتاب أزمة مالية أعمق من ذلك، إذ يقدّر خبراء أن التراجع في ايرادات الخزينة ربما يتجاوز الـ50% بكثير، وربما يصل الى 70%.
المعدل العام لإيرادات الحكومة، نحو مليار ومئتي مليون شيقل شهريا، تنقص أو تزيد بحسب مواعيد توريد دفعات القطاع الخاص من الضرائب، وأيضا حسب حجم الاستيراد من الخارج بين شهر وآخر، بواقع حوالي 500 – 600 مليون شيقل جباية محلية، و600-700 مليون شيقل عائدات المقاصة، وجميعها بالكاد تكفي لسد النفقات الضرورية قبل الأزمة الناتجة عن جائحة "كورونا".
وفيما يبدو، وبعد إجراءات العمل التي أعلنتها وزارة المالية قبل أيام في ظل حالة الطوارئ، بما في ذلك تأجيل دفعات، وما يعيشه المكلفون، أفرادا وشركات، فإن الجباية المحلية مرشّحة للتراجع خلال الأشهر القادمة إلى الصفر تقريبا، فيما يتوقع تراجع عائدات المقاصة بما لا يقل عن 30% بسبب تراجع الاستيراد والاستهلاك حسبما قال اشتية، وعليه، وربما بدءا من الشهر القادم أو الذي يليه، سيتعين على الحكومة التعامل مع نفقاتها بنحو 300 – 400 مليون شيقل فقط، هي جلّ ما قد يتوفر، لرواتب وأشباه رواتب (تحويلات اجتماعية) تبلغ حوالي 800 مليون شيقل، واستمرار صرف جزء من مستحقات مورّدي السلع والخدمات من القطاع الخاص حسبما تعهدت وزارة المالية، إضافة إلى توفير ما يحتاجه القطاع الصحي لمواجهة "كورونا"، والتي تقدّرها الحكومة بنحو 120 مليون دولار (حوالي 450 مليون شيقل)، وكل هذا يعني أن الحكومة أمام أزمة مالية خانقة ستضيق حلقاتها تدريجيا اعتبارا من شهر نيسان المقبل، ما لم يتم تعويض جزء مهم من فاقد الإيرادات من جهات مانحة.
بعد نحو ثلاثة أسابيع من إعلان حالة الطوارئ في البلاد، حققت خلالها الحكومة نجاحا لافتا على الصعيد الصحي في حصر وإبطاء انتشار الفيروس، خطت، أمس الأحد، خطوة أخرى للتعامل مع تداعياته الاقتصادية هذه المرة، بما يتوفر من إمكانيات ضعيفة للغاية، فأعلن اشتية جملة من الإجراءات تعكس ثلاث اولويات رئيسية خلال هذه الأزمة، أولها الحفاظ على قطاع صحي فاعل يلبي الاحتياجات، والثاني دعم الفقراء والفئات التي تعاني أوضاعا هشة، والثالث توفير رواتب الموظفين واحتياجات أجهزة الأمن.
وضمن هذه الأولويات الثلاث، أعلن اشتية عن تعيين 51 طبيبا من مختلف التخصصات، وممرضين وفنيين، وصرف رواتب الموظفين كاملة لهذا الشهر، وكذلك التحويلات الاجتماعية، وحماية بالحد الأدنى للعاملين في القطاعات المتضررة عبر صرف نصف راتب لهم من قبل مشغّليهم، وتوفير معونات للعمال الذين فقدوا أعمالهم نتيجة الأزمة، بالاشتراك مع اتحاد نقابات العمال (عشرة ملايين شيقل مساهمة كل منهما).
لكن اشتية ألمح إلى أن "حتى هذه الخطوات البسيطة، قد لا تكون متوفرة جميعها في الأشهر القادمة"، إذ قال: "بسبب توقف عجلة الإنتاج والاستيراد والاستهلاك، فإن إيرادات السلطة سوف تنخفض بشكل كبير إلى أكثر من 50%، سواء الضرائب المحلية أو المقاصة أو غيرها، والمساعدات الدولية ستتراجع لأن كل العالم في أزمة، ولذلك سوف نعمل بموازنة طوارئ متقشفة من خلال تخفيض المصاريف قدر الإمكان".
وتصريحا وليس تلميحا، قال اشتية، إن "عجز الموازنة سيتضاعف وخسائر الاقتصاد الوطني ستكون كبيرة جدا، لذلك بدأنا بدراسة الآثار الاقتصادية لهذه الأزمة مع البنك الدولي وفريق من المؤسسات ذات العلاقة، وبدأنا الإعداد لما بعد انتهاء هذه الأزمة لإعادة إنعاش الاقتصاد، من خلال العمل على تخصيص مبالغ عبر البنوك مع توفير ضمانات للقروض، وسوف نطلب من البنوك من خلال سلطة النقد، خفض فوائد القروض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة".
وزاد: نعمل مع المانحين والبنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية والصناديق العربية من أجل برنامج قادر على إعادة تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل وإنعاش القطاعات الإنتاجية، والخدماتية، والسياحية.
أما بالنسبة لمساعدات دولية محتملة، قال اشتية: "تلقينا تعهدات من دول مختلفة، ونحن شاكرين لها ذلك، ونأمل ترجمتها إلى واقع قريبا. وكل مساعدة تأتينا لمواجهة هذا الوباء هي لكل الفلسطينيين في القدس وغزة والضفة ومخيمات اللجوء في الشتات".
ويبدو، أن الحكومة تعوّل كثيرا على القطاع الخاص، إذ توجه اشتية إلى أصحاب المصالح الصغيرة والكبيرة وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، "وأطلب منهم وقفة عز مع أهلهم ومجتمعهم. فالبلد يحملها أهلها، فنحن ليس لدينا احتياطي نقد ولا عملة وطنية، لكن لدينا روح وطنية وعزة نفس وكرامة وروح تضامن. الشركات في كل العالم ستخسر، والمصالح ستتأذى. اليوم عليكم ان تساعدوا من جيوبكم وليس فقط من شركاتكم".
وتبقى البنوك الباب الأقرب لطرقها، إذ طلبت الحكومة من سلطة النقد التسهيل على المقترضين وإجراءات البنوك.
"جوهر كلام رئيس الحكومة، أن الناس ستقبض رواتبها هذا الشهر، أما عن الشهر القادم والأشهر التالية فإن هذا مشكوك فيه"، قال أسامة عمرو أمين سر المجلس التنسيقي لمؤسسات القطاع الخاص، متوقعا "أزمة (مالية اقتصادية) غير مسبوقة".
وقال لـ "وفا" "الوضع الاقتصادي صعب للغاية، هناك انخفاض هائل في دخل الحكومة بدءا من هذا الشهر، ربما يصل 70%. الحكومة كانت بالكاد تغطي نفقاتها الضرورية بـ100% من الدخل، فكيف الآن مع 30% فقط".
وبرأي عمرو، فلن يكون خيار أمام الحكومة سوى الإقتراض مؤقتا، وتكثيف الجهود مع الدول العربية والأجنبية للحصول على مساعدات، "فنحن تحت الاحتلال، وحتى في الأيام العادية ليس لدينا أية أدوات للتحفيز، ولا أية أدوات للدفع كالسندات، في وقت مطلوب فيه بإلحاح تأمين القطاع الصحي".
وقال عمرو، "لا مخرج من هذه الأزمة إلا بتكاتف الجميع، حكومة وقطاع خاص وقطاع أهلي"، محذّرا من أن "دخول الحكومة في ضائقة يعني أن الجميع سيدخل في ضائقة".
لكن ماذا عن الملفات المالية العالقة مع إسرائيل، وتقدَر بمليارات الدولارات؟
قبل أيام، حوّلت اسرائيل لخزينة السلطة 120 مليون شيقل من المستحقات الضريبية الفلسطينية المحتجزة لديها، وجاء هذا التحويل بعد أيام من اجتماع ضم وزير المالية الفلسطيني شكري بشارة ونظيره الإسرائيلي موشيه كحلون، طلب خلاله بشارة تحويل مبلغ مليار و47 مليون شيكل تحتجزها اسرائيل، 650 مليون منها بموجب قانون اقتطاع ما يوازي مدفوعات السلطة لعوائل الشهداء والجرحى والأسرى والباقي فروقات حسابية بين الجانبين لعائدات المقاصة الفلسطينية على مدى الأشهر الماضية.
كذلك، فإن هناك نحو 3 مليارات شيقل موزّعة على جملة ملفات عالقة بين الجانبين، منها فروقات احتساب المقاصة على مدى السنوات الماضية، وفروقات ضريبة الخروج عبر الجسر، وفروق أثمان كهرباء، وغيرها، كل هذا يضاف إلى مبالغ ضخمة مترصّدة لدى إسرائيل من اقتطاعات العمال الفلسطينيين العاملين في السوق الإسرائيلية منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، وجميع هذه الملفات مطلوب تفعيلها الآن.
"ما علمناه من وزير المالية خلال اجتماعنا الأخير معه، فإن هناك تفاهمات مع المالية الإسرائيلية تقضي بتحويل مبالغ معينة تحت الحساب، على الأقل لتغطية ولو جزء من فاتورة الرواتب"، قال عمرو.
قبل أيام، تسلمت الحكومة تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء حول الآثار الاقتصادية المحتملة لجائحة "كورونا"، فيما يعمل معهد أبحاث السياسات الإقتصادية الفلسطيني "ماس" على إنجاز دراسة أخرى، وكذلك البنك الدولي، وكلاهما لن تكونا جاهزتين قبل 15 نيسان المقبل، ووفقا لتقديرات أولية، فإن التراجع في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني سيتجاوز رقما من خانتين كنسبة مئوية، وربما يصل إلى 40%.
وقال مدير معهد "ماس"، رجا الخالدي لـ "وفا"، "نعمل على إعداد دراسة حول التقديرات الأولية للخسائر، عقدنا اجتماعات مع الإحصاء وسلطة النقد والقطاع الخاص، الدراسة لن تكون جاهزة قبل 15 نيسان المقبل".
وأضاف: المشكلة ليست فقط في حجم الخسائر، وإنما ايضا في الفترة التي تتطلبها إعادة إنعاش الاقتصاد، فحتى لو انتهت الأزمة، فإن إعادة الاقتصاد إلى مستواه الطبيعي قبل الأزمة يحتاج الى فترة طويلة".
الدراسة تستند إلى عدة نماذج، تتراوح الخسائر وفق التقديرات المستندة اليها بين 5% و40% وأبرز هذه النماذج "انتفاضة الأقصى" بين عامي 2000 و2003، حيث فقد الاقتصاد نحو 40% من قيمته، ويرجّح اعتماد نموذج متحفظ بخسائر لا تقل عن 10%، أي بما لا يقل عن 1.5 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي.
وقال الخالدي "للأسف، ليس لدينا قنوات مالية للنهوض. أعتقد أن التعافي لن يكون سريعا".
فيما يتعلق بدراسة البنك الدولي، وهي الدراسة الأهم التي تنتظرها الحكومة لما لها من تأثير محتمل في تحريك جهات دولية مانحة، فإن الدراسة أيضا لن تكون جاهزة قبل منتصف الشهر المقبل، وفق ما قاله مصدر في مكتب بعثة البنك في فلسطين لـ "وفا"، مضيفا أن الدراسة ستتضمن توصيات محددة لمواجهة الأزمة.
البنك الدولي أعلن مؤخرا عن حزمة إنقاذ بـ 160 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة والنامية في مواجهة جائحة "كورونا"، فيما أعلن صندوق النقد عن حزمة بتريليون دولار، ومنظمة الصحة العالمية عن حزمة لمساعدة النظم الصحية حصرا بملياري دولار، لكن مشكلة فلسطين أنها لن تكون قادرة على طلب إقتراض أو منح ضمن الإجراءات المتبعة في البنك الدولي وصندوق النقد، باعتبارها ليست دولة عضوا في المؤسستين، وبالتالي فإن الخيار المتاح هو استحداث آلية خاصة على غرار الصندوق الاستئماني متعدد الأطراف، الذي يديره البنك الدولي، وموّل حتى الآن مشاريع بمئات ملايين الدولارات، منها حوالي مليون دولار حولها البنك لوزارة الصحة الفلسطينية قبل أيام، فيما يستعد لتحويل حوالي 6 ملايين أخرى خلال الأيام القليلة القادمة لدعم قدراتها في مواجهة كورونا، فيما قدمت منظمة الصحة العالمية مساعدات عبارة عن أجهزة وشرائح خاصة بالكشف عن الإصابة بالفيروس.
وفي ظل اجتياح الفيروس للعالم، ولجوء الدول إلى الإنكفاء على ذاتها لمواجهته داخل حدودها، وما تطلبه ذلك من حزم تحفيز استنزفت خزائنها، فإن التعويل على مساعدات خارجية ضرب من المخاطرة، فباستثناء 10 ملايين دولار من قطر، و5.5 مليون دولار من الكويت، ومساعدة منظمة الصحة العالمية، والمساعدة الصينية المتوقع وصولها قريباً، وجميعها على شكل معدات وتجهيزات طبية، لم يدخل الخزينة الفلسطينية فلسا واحدا من المساعدات منذ بداية العام، ومع ذلك، فالحكومة، وفقا لما قاله اشتية "على اتصال مع العديد من الدول، لتأمين بعض المساعدات".
في الأروقة تثار عدة تساؤلات بشأن بعض الأدوات التي يمكن استخدامها، ولو بشكل مؤقت، لتمكين الحكومة والاقتصاد الفلسطيني عموما، من اجتياز هذه المرحلة بأقل الخسائر، فإضافة إلى أداة للاستفادة من حزم مساعدات المؤسسات الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة الصحة العالمية)، هناك تساؤلات بشأن أدوات محلية يمكن اللجوء إليها، كصندوق الاستثمار الفلسطيني، سواء السيولة المتوفرة أو استخدام الأصول الأخرى كضمانات تمويل، والإقتراض من الاحتياطي لدى سلطة النقد، وخفض الإحتياطي الإلزامي (البالغ 9% إلى الودائع) لتوفير سيولة للبنوك لإعادة ضخها في الاقتصاد، أسوة بالبنك المركزي الأردني الذي خفض الاحتياطي من 7% الى 5%، وإعادة تفعيل صندوق الضمان الإجتماعي الذي أوقف بعد احتجاجات واسعة من العاملين في القطاع الخاص، وهو الأداة الوحيدة لاسترداد مستحقات العمال الفلسطينيين في إسرائيل في وقت باتوا أحوج ما يكون لها في هذه الأيام، إضافة إلى الشركات المحلية، حيث كانت الحكومة توصلت إلى تفاهم مع إسرائيل قبل تجميد الصندوق لتحويل 600 مليون شيقل بشكل فوري، إضافة إلى 400 مليون شيقل سيولة لدى شركات كبيرة جاهزة لتحويلها إلى الصندوق بشكل فوري، ويبدو أن "كورونا" أعاد هذا الملف الى سطح طاولة الحكومة.